هل لاحظت أن الدول الغربية تقف على قدم واحدة وبعاطفة جياشة ولغة إنسانية مؤثرة من أجل تحرير أسرى صهاينة بينما لم يكلفوا أنفسهم -ولو من باب المجاملة أو التجمل أو لتفادي الاتهام بالانحياز والعنصرية- الحديث الإنساني ذاته تجاه آلاف الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال المنسيين لعشرات السنين، الذين يتعرضون حاليًا للتعذيب والتصفية داخل سجون الاحتلال بصمت دولي مطبِق.
ربما البعض لم يلاحظ لأنه اعتاد على ذلك، أو لاحظ دون الوقوف على جذور الموضوع.
بعد الحرب العالمية الأولى وبروز الولايات المتحدة الأمريكية كنجم صاعد للوصول لمكانته في قيادة العالم، كان رئيس الدولة وودرو ويلسون يعلن مبادئه السامية في «حق الشعوب في تقرير المصير».
ولكن أي شعوب؟!
حين كان ويلسون يعلن مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، كانت صورة الشعوب الماثلة في ذهنه والمعنية بهذه الوعود هي الشعوب الأوروبية التي كانت منضوية تحت حكم الإمبراطوريات المنهزمة في الحرب العالمية الأولى، وهي الإمبراطورية العثمانية، والنمساوية المجرية، والألمانية، ولم يذكر في خطاباته ولا مرة واحدة شعوبًا من خارج دائرة الجنس الأبيض!
برغم ذلك تعلقت آمال الشعوب المحتلة في آسيا وأفريقيا بوعود الرئيس، وكان منهم الزعيم المصري سعد زغلول الذي وجد ضالته في وعود ويلسون؛ فسعى إلى اقتناص فكرة الأمير عمر طوسون بتشكيل وفد لعرض قضية الاحتلال البريطاني لمصر، على الدول المنتصرة المجتمعة لتقسيم غنائم المنهزمين في مؤتمر (السلام) المنعقد في باريس يناير 1919م، الذي تقدمت فيه اليابان -شريكة الحلفاء في النصر- بطلب اعتراف الدول المجتمعة بحق المساواة بين الأعراق.
ولكن الدول «المتحضرة» رفضت مبدأ المساواة بين الأعراق!
ولم تلتفت الشعوب وزعماؤها لهذه الإشارة الواضحة بأن الشعوب التي لا تنتمي للعرق الأبيض خارج إطار الصورة المرسومة للإنسان في مخيلة ويلسون ورفاقه من قادة الغرب، وبالتبعية ليست هي الشعوب المقصودة بوعود ويلسون، وأصر الوفد المصري على الاستمرار في مهمته التي نتج عنها اعتقال الوفد وخروج الشعب المصري ليعلن موقفه الرافض للاحتلال في مظاهرات مارس 1919م، ثم عودة الوفد من المنفى وحضوره لمؤتمر الصلح بـ«فرساي» في أبريل من العام نفسه، وعودته خالي الوفاض بعد اصطفاف الولايات المتحدة والغرب بجوار إنجلترا في تثبيت «الشرعية الدولية» للاحتلال البريطاني لمصر.
لم يكن الرجل السياسي المخضرم سعد زغلول هو وحده المتعلق بوعود ويلسون، فمن أقصى الشرق كان الشابان ماو تسي تونج من الصين، وهو شي منه من فيتنام يتطلعان لمساندة الولايات المتحدة لبلديهما ضد المحتلين، وعادا بما عاد به غيرهم من خيبة الأمل، ولكن الشابين سرعان ما أدركا أن حقوقهما لن ينالوها بمعونات خارجية، أو بمد اليد للاستجداء من هذا وذاك، واختاروا طريق الكفاح الصعب، الذي أوصل فيتنام للتخلص من الاستعمار الفرنسي ثم هزيمة الأمريكيين، وأوصل الصين إلى قوة عظمى.
كم هو متعب وممتع في آن معاً، كما هو فرض عين على كل إنسان أن يحاول فهم ما يدور حوله؛ فالفهم السليم هو مفتاح الوصول للموقف السليم.
رصيد التجربة الإنسانية تجعلنا نتأكد من أن الشعارات اللطيفة الظريفة حول «حق الشعوب»، و«حقوق الإنسان» وغيرها لسنا نحن المقصودين بها، وأن ما نراه من موقف العالم (الحر المتقدم) مما يحدث من جرائم في غزة، وتسويغ تلك الجرائم المعادية للإنسانية والمخالفة للقوانين الدولية، سيكون هو موقفه ذاته من الإنسان الذي لا ينتمي للعرق الأبيض يوم يطالب هذا الإنسان بحقه في الحياة، إذا تعارضت مع إطار التبعية والرضوخ والاستسلام الذي يحاصرونه داخله.
وليس هناك طريق أمام البشرية لدخول إطار الصورة الطبيعية للإنسان، بعيداً عن الإطار العنصري البغيض الذي صنعته الحضارة الغربية، إلا بمقاومة الإطار، والصراخ في وجه صانعيه، والسعي لتحطيم هذا الوضع الإنساني الشاذ؛ فإطار الإنسانية يسع كل البشرية.