ربما كان من الحكمة الإلهية أن يكون من بين أوائل من صاحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة من غير العرب الذين قدر لهم أن يتزامن وجودهم في مكة المكرمة مع البعثة النبوية، ليصبحوا وبعد مدة وجيزة من انطلاق الدعوة الإسلامية من كبار الصحابة.
هؤلاء هم سلمان الفارسي الذي تعود أصوله إلى بلاد فارس، وصهيب الرومي الذي تعود أصوله إلى بلاد الروم، وبلال الحبشي الذي تعود أصوله إلى بلاد الحبشة، حيث ينتمي كل منهم إلى ثقافة مختلفة تعود لبيئة مجتمعية مغايرة لتلك البيئة التي بدأت فيها وانطلقت منها الدعوة الإسلامية، الأمر الذي حمل معه دلالة مهمة، إذ برهن الإسلام ومنذ لحظاته الأولى من تاريخه على أنه قادر على احتواء الثقافات المختلفة، وأن هذا الاحتواء ليس تهميشاً أو إقصاء لهذه الثقافات، وإنما هو احتواء تقدير واحترام وتهذيب.
بدا من خلال سلوك الصحابة الثلاثة الكبار أن جوهر فلسفة الإسلام في ترسيخ فكرة الاحتواء والتعايش مع الثقافات المغايرة تجسد في منح الداخلين في الإسلام من غير العرب القدرة على التوفيق بين الحفاظ على هويتهم الثقافية الخاصة بهم والالتزام في الوقت ذاته بالثوابت والقيم والتوجيهات الإسلامية، إذ استطاعت الحالة الإيمانية لديهم وعن رضا وطيب خاطر القيام بعملية فرز واختيار لما يتوافق مع الثوابت الدينية واستبعاد وإقصاء كل ما يخالفها، ومن ثم فهو إذن انفتاح على الثقافات الأخرى وتعايش معها.
دين عالمي
ولعل الإسلام بهذا الموقف الذي برهن عليه منذ بداية الدعوة أكد بوضوح تام وحاسم أنه بالفعل دين عالمي لا تقتصر دعوته على جماعة أو عرق أو ثقافة بعينها، فعلى الرغم من أن صلب دعوته ورسالته هي التوحيد فهو لا يرفض تعدد الثقافات المختلفة، كون أن رسالته الشمولية يجب أن تستوعب من خلال قيمها وخطابها جميع البشر، وأن يكون باستطاعتها النفاذ إلى قلوب وعقول المخاطبين بها لترتضيها النفوس السوية ويتقبلها ذوو الألباب إن عرضت عليهم.
والحقيقة أن هذا الموقف الإسلامي لم يكن مجرد استجابة لظرف آني في لحظة عصيبة من بداية الدعوة أو تعبير عن محاولة تلفيقية أو برجماتية تستهدف الإيقاع بالآخرين من غير العرب لاتساع رقعته أو لزيادة أعداد المؤمنين به، وإنما هو موقف يعكس روح وجوهر الإسلام فعلاً وواقعاً؛ إذ ينطلق في تبني هذه الرؤية من عدة منطلقات رئيسة تستند في أغلبها لما ورد في قوله تعالى في كتابه الكريم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
فكان من أهم هذه المنطلقات التأكيد أن التعدد الثقافي هو تعبير عن إرادة إلهية، وأن ذلك إنما ليكون فرصة للتعايش والتعارف والتفاعل بين هذه الشعوب والقبائل، الأمر الذي يفتح الباب أمام الجميع للأخذ بالحكمة بمعناها الواسع، وهو ما حثت عليه مثلاً التوجيهات النبوية من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها» (رواه الترمذي)، وعليه فإنه وبلا شك ستكون من نتائج هذا التعارف والتعايش أن يصبح هناك نافذة مهمة ليتعرف عبرها غير المؤمنين على المؤمنين من خلال أخلاقهم وسلوكهم وعباداتهم والتزامهم بكل ما يصلح الأرض ويعمرها فيكون ذلك في ذاته وسيلة من وسائل الدعوة للإيمان والتوحيد.
وبطبيعة الحال، فإن هذا التعدد الذي يترتب عليه التعارف بين الشعوب دافع مهم لاستفادة الشعوب بعضها من بعض؛ فيتبادلون المعارف والعلوم فيحدث التكامل الذي يصل بهم إلى أفضل ما ينفع البشر وهو أحد أهم المقاصد الإسلامية.
كما عبر الإسلام مراراً ومن خلال آيات الذكر الحكيم والأحاديث النبوية الشريفة عن إقراره وتفهمه لاختلاف طبائع النفوس البشرية نتيجة لتنوع الغرائز وتباين البيئات واختلاف التوجهات، وهو ما كان سبباً في تعدد الأمم، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (المائدة: 48)، ومنها أيضاً قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (فاطر: 28)، وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) (الروم: 22)، وقوله عز وجل: (وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168).
ولم يتردد الإسلام أيضاً في التأكيد على أن الانتماء للعروبة ليس ميزة تفضل العرب على غير العرب رغم نزول القرآن بالعربية على نبي عربي وهو المبدأ الذي لم يحرم الآخرين من غير العرب الاعتزاز بأنفسهم وعدم الشعور بالدونية، كما أن هذه الأفضلية لم تعط للبيض على السود أو للسود على البيض، فسبيل الارتقاء والعلو والقرب من الخالق عز وجل يتعلق إذن بالسلوك الإيماني يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لعجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأبيضَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أبيضَ إلَّا بالتَّقوَى، النَّاسُ من آدمَ ، وآدمُ من ترابٍ» (رواه أحمد).
احترام التعددية
وتتجلى دعوة الإسلام لاحترام التعدد الثقافي والتعايش معه في عدة مظاهر يبرز، منها:
1- أن الشريعة الإسلامية تأخذ بعين الاعتبار الأعراف والعادات المحلية عند تطبيق الأحكام الشرعية ما لم تكن هذه العادات تتعارض مع المبادئ الإسلامية الأساسية، وهو ما يتضح في الفقه الإسلامي الذي يتعامل مع تنوع الأعراف والتقاليد بمرونة.
2- أن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم كان يتعامل مع الثقافات المختلفة باحترام، فعندما هاجر إلى المدينة المنورة كانت المدينة تضم مختلف القبائل والعشائر ذات الخلفيات الثقافية والدينية المتنوعة؛ فتعامل معهم بالحكمة والعدل ودعا إلى التعايش السلمي بينهم.
3- أن الثقافة الإسلامية استطاعت أن تتفاعل وتتعايش مع غيرها؛ فتأثرت بالثقافة الفارسية والهندية واليونانية والرومانية، وتفاعلت معها بشكل أدى إلى تطوير العلوم والفنون والآداب.
4- أن الإسلام لم يتوقف على سبيل المثال عند مسألة اللباس، فلم يفرض نمطاً محدداً، وإنما وضع شروطاً يلتزم بها المؤمن كأن تكون بعيدة عن الإسراف والخيلاء، وأن يكون ساتراً للعورة مع اختلافها بالنسبة للرجل وللمرأة، وألا يكون لباس أحدهما تشبهاً بلباس الآخر، وربما ذلك هو الذي جعل كل شعب من الشعوب الداخلة في الإسلام يحافظ على شكل وهويه ملبسه.
5- أن تاريخ الدول الإسلامية شهد بروز قيادات سياسية وفكرية وعسكرية وأدبية وعلمية من غير العرب، وكان لكل منهم بصمته فيما قدمه.
6- أن الإسلام لم يفرض على غير العرب الحديث بالعربية رغم أنها لغة القرآن، فمصر مثلاً لم يتحول شعبها للحديث بالعربية إلا بعد قرون من دخول الإسلام وبمحض إرادة المصريين.