عرضنا في المقال السابق موجزاً عن الحياة الدعوية للأستاذ محمد أحمد الراشد، مع إشارة سريعة إلى المصاعب التي واجهته، وجانباً من مؤلفاته الدعوية والتربوية والاجتماعية والسياسية، ونستكمل في هذا المقال عرض جانب آخر من نتاجه الفكري المتنوع.
كان معايشاً لهموم الأحرار دوماً، فأصدر «آلام صحراوية»، وكان الجهاد ميدانه ومكان رباطه فأصدر «الموازين الجهادية عند الراشد»؛ وهي حشد من النقول المستلَّة من كتب «إحياء فقه الدعوة»، وفيها تحليل لكثير من ظواهر العمل الجهادي وبيان خلفياته النفسية، مع ملاحظات نقدية وقواعد ومبادئ ومفاهيم يجب أن يستحضرها المجاهد عند التخطيط والأداء وتقويم الأمور، مع جملة وصايا ومواعظ نافعة، وكان غيوراً على الأمة وعلى الدعاة فأصدر «الطريق المسدود».
كان محباً للتراث، باحثاً في تاريخ الأمة وكتب الفقهاء فأصدر ونقّح «سبائك السبكي»، حيث يتكلم عن كتاب «معيد النعم ومبيد النقم» للتاج السبكي، وهو وثيقة فقهية تمثل تقريراً اجتماعياً إسلامياً يكشف خطة إصلاحية ومنهجية لعلاج الفساد الإداري.
ولما كانت الدعوة بحاجة إلى إفتاء واجتهاد جاءت موسوعة «أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي في نظريات فقه الدعوة الإسلامية»، وهو كتاب يبدأ من حيث انتهى الأصوليون، يوظف نتائج علم الأصول لكشف أحكام التعامل الدعوي، ويستعير ما يصلح من علم القواعد ويناسب الأصول الدعوية، ويستشهد بما تناثر في كتب الفقه من فتاوى ومذاهب، ويؤسس أصولاً جديدة للاجتهاد تقتضيها سعة باب الآداب الدعوية في مدارات الندب والتفضيل والإباحة ومكارم الأخلاق ونبل الطباع، ولا تبلغ مبلغ الوجوب أو التحريم المضبوطين بحدود علمي الأصول والقواعد بصراحة.
قدم «الفقه اللاهب»؛ وهو تهذيب لكتاب «الغياثي» للإمام الجويني الشافعي، وهو قطعة رصينة من العمل الاستنباطي والقياسي، سرعان ما يكتشف صاحب الخلفية الشرعية الوافية أهميته الاستثنائية، فيبدي حفاوة به من تلقاء نفسه دون حاجة لوصية وحث، كما أن هذه المدونة هي أصل وجذر الفكر الدعوي والإفتاء السياسي المعاصر، وقد جمعت حاجات الدعوة من أقطارها، ومنحتها تعليلاً واضحاً، مع الثقة والاعتماد اليقيني بصواب ما هنالك.
كان الراشد مهموماً بأمر أمته ودعوته، باحثاً عن التطوير والتجديد المنضبط فكانت إصداراته:
– «رؤى تخطيطية» همساً صريحاً وأذاناً فصيحاً معاً، موجهاً لداعية حضاري الأفق منهجي الأسلوب والوسيلة.
– «مقدمات الوعي التطويري»، وهي مجموعة رؤى تحاول استكشاف مستقبل الدعوة الإسلامية ونقد ذاتي للواقع الدعوي.
– «تنظير التغيير»، حيث يتحدث عن النظرية التكاملية للتغيير السياسي الإسلامي.
– «المؤتمر»، وهو دعوة للنضال من أجل الحرية أولاً.
ويدرك حاجة الدعاة الماسة إلى التزكية والارتقاء، فيكون «تهذيب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين» للإمام ابن القيم.
وكان دوماً بمواعظه مع الدعاة، فكانت سلسلة «مواعظ الداعية»، بدأها بـ«صراطنا المستقيم»، ثم «آفاق الجمال»؛ لتكون التربية الجمالية مقصداً من مقاصد المنهجية الدعوية، ثم «استعلاء الدعوة» يؤكد فيه التقدم الواثق رداً على جاهلية الظلم الاستعماري والعدوان على كل تحرك إيماني.
وكان «التهجد الإصلاحي»، لأن الدعوة تمارس الإصلاح الحيوي الشامل، ولأنها تؤدي ذلك بنوايا تعبدية صارت كل أعمال الدعاة السياسية والتنموية تهجداً، لكنه التهجد الواعي المنضبط بمعالم الفقه.
ويأتي «سلطان الإيمان» مذكّراً بأن التوحيد والإيمان بالنبوة الكريمة اكتسب مكانة هي مثل السلطة تضبط أعمال الأمة الإسلامية وتسيطر على أفرادها.
وتأتي «موعظة تمام البيان»؛ وهي انتقال جريء بمستوى القول إلى صراحة ناقدة والجزم بأن أمريكا هي الخصم الأول الأشد عداوة للدعوة الإسلامية في العالم.
أما موعظة «عوالي المقاصد»، فهي نظرة وصفية ناقدة لعلم المقاصد الشرعية ومحاولات تقعيدية لبعض جوانب المقاصد ودعوة لتوسيع علم المقاصد، من خلال القيم الشرعية والمعرفية وصيحة إنكار على من يتخذ من المقاصد وسيلة لتمييع القضايا.
أما «فقه الحياة» فيقول: إن أصل الفهم عندنا لحركات الحياة هو الفهم الإسلامي، فكان لا بد لمن يروم تحريك الحياة أن يتدبر القرآن الكريم، وهذا المبحث يكشف أبعاد الشهادة القرآنية على أسرار الحياة.
وموعظة المعتز بالله تعالى تذكر بحقائق مهمة رئيسة في العقيدة الإسلامية، وأن الله تعالى رقيب على عباده، وهو الذي يسير حركات الحياة بحكمته، وبيان أن القصور الإنساني يحرم الغافلين من رؤية الحكمة الربانية، لكن المؤمن يفهم الحكمة ويكبت الفساد ويعمل صالحاً.
وتأتي موعظة «الثائر المجاهد»؛ وهي استلال دروس خططية من الأحداث والتجارب التركية وبيان خطورة محاولة أمريكا فرض تصورها لإسلام لا سياسة فيه ولا جهاد.
ويأتي «عبير الوعي» ليؤكد للدعاء المتوغلين في درب السياسة والدعاة الذين يجاهدون، والرهط الذي يساير العمل المؤسسي والنشاط الإعلامي بأن بلوغ هذه الأعماق ينحت ولا بد من رصيد القلوب، وأن التربية وظيفة دائمة في الأداء الدعوي لا ينبغي أن ينساها أحد ولا يتكبر عليها واهم.
رحم الله الأستاذ محمد أحمد الراشد، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة.