(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107)، أرسل الله عز وجل نبيه عليه الصلاة والسلام بالرحمة للناس كافة، لتكون الرحمة والشفقة أكثر ما يميز صفات نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فكان رحيماً بأمته؛ (لقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) (التوبة: 128)، رحيماً بالضعفاء وحتى رحيماً بالكافرين مشفقاً عليهم؛ (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (الكهف: 6).
وأما مع أولاده فقد كان أباً مختلفاً، أباً يشفق على الآخرة أكثر مما يشفق على الدنيا، يهتم لتربيتهم التي تنجيهم من عذاب الله عز وجل، يشفق عليهم من غضبه سبحانه.
لقد تزوج النبي صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها فأنجب منها البنات والولد، وكان في حضنه علي بن أبي طالب، والغلام ميسرة، وزيد بن حارثة، فكان بيتاً مليئاً بالأطفال في مراحل التربية، فحرص النبي عليه الصلاة والسلام على توريثهم الأخلاق قبل بعثته، والدين بعد البعثة المباركة، وكان يعتريه ما يعتري الآباء من هموم تجاه مشكلات أبنائهم، لكن تعامله معها كان مختلفاً، كان تعامله معها كنبي مرسل من قبل الله عز وجل، يتعامل بمنهج، فعله شريعة وسُنة وأسوة للمسلمين.
فرحته بميلادهن
ما زال الناس وحتى اليوم يميزون بين الذكر والأنثى حين يرزقون بهم، وما زالوا يفرحون بالولد أكثر من البنت، وما زالت بالمجتمعات بقية من جاهلية خاصة عند الآباء الذين يستقبلون الولد بفرحة مختلفة، وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم جانباً من حياته بين قوم يفضلون إنجاب الذكور على الإناث، قال الله تعالى فيهم: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ {58} يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ) (النحل).
وأما النبي عليه الصلاة والسلام فكان يفرح لولادة بناته بالرغم من إنجابه لهن قبل نزول الوحي، لكن فطرته التي أعدها الله لقيادة الأمة استقبلت البنات كالبنين، فرح بهن وحمد الله عليهن وأحسن تربيتهن، وحين بشر بفاطمة وكانت رابعة أخواتها البنات سر لها واستبشر بها، وقال عنها: «فاطمة بَضْعًةٌ منّي، فمن أغضبها أغضبني» (رواه البخاري).
زيارتهن وتفقد أحوالهن
وبعض الأسر تزوج بناتهن وتنساهن وكأنهن أحمالاً تخلصوا منها، فلا زيارات ولا تفقد لأحوالهن ولا سؤال عليهن ولا مراعاة لمشاعرهن، فتنكسر مشاعر ابنتهم أمام زوجها، وتشعر وكأنها بغير سند أو ظهير، أما النبي صلى الله عليه وسلم «رحمة الله للعالمين»، فله مع بناته شأن آخر، ومنه يجب أن يتعلم الآباء ويقتدون، فهو يزورهن في بيوتهن، ويتابع حياتهن ليقوم بحل أية مشكلة تبدو في الأفق ولا يتركها أمامها منفردة.
وها هي فاطمة رضي الله عنها تشكو لأبيها النبي صلى الله عليه وسلم كثرة العمل وإرهاقها الشديد في خدمة البيت وتسأله خادماً يعينها، فيواسيها الأب الذي لا يملك في يده شيئاً يعطيه إياها من مال خاص، وإنما هو مال المسلمين وهو عليه قائم، وينصحها كنبي شفقة بها ورحمة، وعلمها «أن تُكبر أربعاً وثلاثين، وتسبح ثلاثاً وثلاثين، وتحمد ثلاثاً وثلاثين»، وقال لها: «فهو خيرٌ لكما مِن خادم» (رواه البخاري).
وفي السعي على حل مشكلة الابنة المتزوجة نجد النبي صلى الله عليه وسلم سباقاً لبناته في المشكلة، ولا يعد حتى حلها دون أن يسأل عن ماهية المشكلة إلا أن تحكي ابنته، فلا هو يظلمها، ولا يظلم زوجها، ولا يريد سوى الحل للصفاء وإعادة المودة والوئام، فعن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بَيْتَ فاطمة فَلَمْ يَجِدْ عَلِيًّا فِي الْبَيْت، فقال: «أَيْنَ ابْنُ عَمِّك؟»، قَالَتْ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَه شَيْء، فَغَاضَبَنِي فخرج، فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان: «انظر أين هو»، فجاء فقال: يا رسول الله، هو في المسجد راقد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع، قد سقط رداؤه عن شقه، فأصابه تراب، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسحه عنه وهو يقول: «قم أبا تراب، قم أبا تراب» (رواه البخاري).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمزح ولا يقول إلا حقاً، وفيه: الرفق بالأصهار وإلطافهم، وترك معاتبتهم على ما يكون منهم لأهلهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعاتب عليّاً على مغاضبته لأهله، بل قال له: «قُم»، وعرَّض له بالانصراف إلى أهله.
وكان النبي الأب يخص فاطمة بأسراره دون غيرها حتى من زوجاته، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مرحباً بابنتي»، ثم أجلسها عن يمينه، أو عن شماله، ثم أسرّ إليها حديثاً فبكت، فقلت لها: لم تبكين؟ ثم أسر إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري، ومسلم).
بكاؤه عليهم في موتهم
كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ألماً لفقد أبنائه ذكوراً أو إناثاً، غير أنه لا يقول إلا ما يرضي الله صابراً راضياً، ولا تكاد تجد إنساناً يجمع بين البكاء وحزن القلب والرضا بقضاء الله مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فها هو يبكي ابنه الصغير إبراهيم.
فعن أنس بن مالك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على ابنه إبراهيم وهو يَجُودُ بِنَفْسِهِ (يحتضر) فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبدالرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: «يا ابن عوف، إنَّها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» (رواه البخاري).
وعنه رضي الله عنه قال شهدنا بنتاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر قال: فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟»، فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل»، قال: فنزل في قبرها (رواه البخاري).
والنبي الأب لا ينسى وقت المصيبة الاهتمام بحسن توديع ابنته المتوفاة وإعدادها للقاء الله كما يجب أن تكون المسلمة أسوة للناس وتعليماً، فلم تنسه مهمته الأبوية أن يقوم بمهمته الدعوية في تبليغ دين الله وتعريف الناس به، فعَنْ أُمِّ عَطِيَّة الأَنْصَارِيَّة رضي الله عنها قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفّيت ابنته، فقال: «اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافوراً، أو شيئاً من كافور، وابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها، فإذا فرغتن فآذنني»، فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوه (إزاره) فقال: «أشْعِرْنَها (الشِعار هو الثوب الذي يلي الجسد) إيّاه» (رواه مسلم).
هذا هو النبي الإنسان، النبي الأب، نبي الرحمة في كل حالاته وفي كل مواضعه وفي كل أوقاته، وذلك غيض من فيض لا نستطيع أن نلم به أو نحيط.