أكثر من عقدين من الزمان مرَّا على أحداث 11/ 9، وقعت بعدها العديد من الأحداث في داخل أمريكا وخارجها، لكن ستظل هذه الأحداث هي الأكثر تأثيراً على السياسة الخارجية لكثير من دول الغرب تجاه الإسلام ودوله، وهي كذلك من أكثر الأحداث التي جعلت الغرب-أفراداً- يحاولون إعادة النظر إلى الإسلام.
وفي البداية، نؤكد بأن هذه الأحداث لا تمثل الإسلام؛ لا تمثله لا ديناً ولا شريعة، ولا تمثله لا روحاً ولا دعوة، ولا يمكن أن نضع هذه الأحداث في دائرة الاجتهاد؛ لأنها لم تخرج من أهل الاجتهاد ولا من هم في محلها، فكانت ظلماً للإسلام وأهله، ويكفينا هنا أن نؤكد أن هذا العمل كان عملاً إجرامياً من حيث الهدف، وإجرامياً من حيث الوسيلة، مهما كان فاعله، ومهما كان دينه، ومهما كانت جنسيته.
إن الإسلام يرفض العنف والترويع الموجه إلى الأبرياء، روى أحمد عَنْ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ فَزِعَ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: «مَا يُضْحِكُكُمْ؟»، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنَّا أَخَذْنَا نَبْلَ هَذَا فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا» (قال محققو المسند: إسناده صحيح).
ووصف المروع بأنه مسلم لا يعني أنه يجوز ترويع غيره، وإنما جاء ذلك باعتبار أن الذي رُوّع كان مسلماً، وقد روى مسلم عن أَبَي هُرَيْرَةَ، قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ، حَتَّى يَدَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ»، فانظر كيف كان مجرد رفع حديدة موجباً للعنة!
ويجرم قتل الإنسان مهما كان دينه أو عرقه، ويكفينا في هذا قوله تعالى: (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (المائدة: 32).
ويجب ونحن نرى حال الأمة الآن؛ من ضعف وتخلف واستبداد.. أن ندرك أن هذه الأمة باقية، نعم قد تمرض لكنها لا تموت، قد تضعف لكنها لا تتلاشى، ربما تصل إلى حالة الغثائية كما جاء في حديث ثوبان: «أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ» (رواه أحمد وصححه محققو المسند)، ولكنها ستبقى لأن استئصال الأمة بكليتها نفاه الله عنها، وقد روى البخاري عن مُعَاوِيَةَ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لاَ يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللَّهِ، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»، وعند مسلم عن جَابِر قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، قد تستأصل الأمة في جزء منها، كما حدث في الأندلس، لكنها لا تستأصل كما حدث للهنود الحمر، ولا لسكان أستراليا الأصليين حين أفناهم الإنجليز ومن معهم.
وفي ذكرى أحداث 11 سبتمبر، لا ينكر أحد أنها انعكست سلباً على المسلمين في الغرب، وخصوصاً في أمريكا، وقد مر المسلمون رجالاً ونساء وبخاصة المحجبات بحالات متكررة من الاضطهاد والعنف، كانت تغذيها مقالات مكتوبة، وتنفخ فيها السم برامج متلفزة، ومثلها أفلام رُتب لها عن قصد.
لكن والحق يقال: إن هذه الأحداث رغم قسوتها كانت فاتحة خير على الإسلام والمسلمين، فرغم تنامي المشاعر المعادية للمسلمين عند البعض؛ فإن العقدين الماضيين كانت فترة مضيئة مشرقة للمسلمين في الغرب كله سواء أوروبا أو أمريكا، وأكدت مجلة «إيكونوميست» البريطانية، في تقرير لها، أن المسلمين كانوا الأقلية الدينية الأكثر بروزاً في أمريكا بالسنوات الماضية، وذكرت المجلة أن عدد المساجد تضاعف، كما ارتفعت نسبة التعليم بين الأقلية المسلمة، وعلى سبيل المثال، فإن المسلمين يشكلون في ولاية ميتشغان 15% من عدد الأطباء، رغم أن عددهم لا يتجاوز 0.3% من عدد السكان، وبجوار هذا برز كتَّاب مسلمون، وسياسيون مسلمون في العديد من الولايات الأمريكية.
والواقع الآن يفرض على المسلمين أن ينزعوا الخوف والفزع والهلع من قلوب غيرهم، وهذا يتطلب من الجميع؛ أفراداً ومؤسسات وهيئات، أن يسعوا إلى الاندماج في المجتمع؛ تعريفاً وتواصلاً وخدمة، وذلك لأن الإنسان عدو ما يجهل، فكيف وإن كان الطرف الآخر إما أنه جاهل بالإسلام، وإما أنه مغذى بالبغض والكراهة والحقد بما تنفثه الأبواق الحاقدة، والأقلام المستأجرة، والمؤسسات الكارهة للإسلام؟!
ولكن مع هذا الاندماج مطلوب محافظة على الهوية، نعم محافظة على الثوابت من دين ولغة، إنه الاندماج في المجتمع دون الذوبان في مغريات الغربة أو الانبطاح لكل طارئ من الثقافات الأخرى.
إننا على يقين بأن غير المسلمين لو علموا ما في الإسلام من خير يشمل الناس كل الناس، والمجتمع بكل أطيافه وأشكاله ومعتقداته؛ لتقبلوا هذا الدين إما اعتقاداً أو احتراماً.