حرص التشريع الإسلامي على إعفاء بعض الأموال من الزكاة، كالأصول الثابتة للمال، والمال الذي لم يبلغ النصاب، أو بلغ النصاب ولم يحُل عليه الحول، وغير ذلك من أنواع الأموال، من أجل القدرة على الإنتاج والاستثمار، وتوفير الحاجات الضرورية للإنسان، ومراعاة الفطرة البشرية والحرص على ضبط مسارها، ويتبين هذا فيما يأتي:
أولاً: القدرة على الاستثمار والإنتاج:
تميز التشريع الإسلامي بإعفاء الأصول الثابتة للمال من الزكاة، فقد أبقى القرآن الكريم وصف المساكين لمن يمتلكون سفينة يكتسبون من خلالها أرزاقهم، حيث قال تعالى: (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) (الكهف: 79)، فلم يخرجهم امتلاك السفينة من دائرة المساكين، الذين تجب لهم الزكاة، ولا تجب عليهم فيما يملكون من أصل مالي ثابت من شأنه أن يساعدهم في كسب أرزاقهم، وقال عز وجل: (أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) (البلد: 16)، فلم يخرجه عن كونه مسكيناً كونه ذا تراب؛ أي يمتلك أرضاً، لكنها لا تكفيه كل حاجاته.
وقد استقر التشريع الإسلامي على أن الثروات التي تحولت إلى أصول رأسمالية منتجة، لا تُفرَض الزكاة على عينها، وإنما تفرض على الدخل الذي يتولد منها، وفي هذا الأمر حفظ للثروات التي أصبحت أصولًا منتجة؛ وبالتالي أصبحت في خدمة صاحبها وخدمة مجتمعها، وهذا الأمر في أعلى درجات الكفاءة الاقتصادية، لأنه يحافظ على الأصول المنتجة في المجتمع، فلا يجبر صاحبها على بيعها ليؤدي الزكاة المفروضة عليها(1)؛ لأن هذه الأصول هي التي تقوم عليها المشروعات الاقتصادية، فهي لا تحقق ربحًا بذاتها، بل بالارتكاز عليها والاستناد إليها.
ولذلك، فإن عدم فرض الزكاة على الأصل الرأسمالي يسهم في المحافظة على القدرة الإنتاجية للاقتصاد، كما يساعد على الاستثمار والإنتاج؛ مما يحقق المنفعة العامة لأفراد المجتمع، حيث إن إعفاء الأصول المنتجة من الزكاة يشجع الناس على تحويل ثرواتهم المعطَّلة إلى أصول رأسمالية منتجة، تدفع الزكاة على الدخل المتولد منها، وبذلك يستفيد صاحب الثروة، ويستفيد المجتمع على وجه العموم، وفقراؤه على وجه الخصوص(2).
فإذا كانت الأصول المالية خالية من المطالب التي تقلل من قيمتها، وتنقص من مقدارها؛ فإن هذا يحفظ القدرة الأساسية للمشروعات الاقتصادية، كما يشجع على الانطلاق من خلالها إلى الاستثمار والإنتاج.
ثانياً: توفير الحاجات الضرورية للإنسان:
قسّم الإسلام الأموال من حيث وجوب الزكاة فيها وعدم الوجوب إلى أموال نامية وغير نامية، أما الأموال النامية فتجب فيها الزكاة، وأما غير النامية فلا زكاة فيها، وهي التي تُقتَنى لغرض الاستخدام وليس للبيع، وتسمى عروض قنية، ويطلق عليها الأصول الثابتة، مثل العقارات والأثاث والأجهزة والسيارات، فهي غير خاضعة للزكاة(3)، وقد استند العلماء في ذلك إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة»(4)؛ وهذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها.
وقد أكد الفقهاء أنه لا صدقة في الإبل والبقر العوامل؛ لأنها شبهت بالمماليك والأمتعة(5)؛ أي ليس في الإبل والبقر زكاة إذا كانت تعمل لخدمة صاحبها وليست للتجارة.
كما جعل الشرع الحكيم من شروط وجوب الزكاة أن يكون المال زائدًا عن الحاجات الأصلية؛ كالطعام والشراب والملبس والمسكن والمركب، ولهذا فإن المنزل الذي يستخدمه الشخص لسكناه والسيارة التي يستعملها في تنقلاته والأجهزة التي يستعملها في منزله وما يشبه ذلك.. كل هذا لا تفرض عليه الزكاة، وفقه الزكاة على هذا النحو يحفظ للشخص هذه الثروات التي تستخدم لتوفير الخدمات الضرورية اللازمة لحياته(6).
وفي هذا تيسير على الناس ومراعاة لأحوالهم، بخلاف ما يحدث في بعض النظم الوضعية من فرض الضرائب على كل ما يدخل إلى الإنسان من أموال؛ مما يدفعه إلى التهرب من دفع الضريبة، حتى يتمكن من إقامة المعيشة التي تليق به.
ثالثاً: ضبط السلوك لموافقة الفطرة البشرية:
حرص التشريع الإسلامي على مراعاة الفطرة البشرية من خلال فريضة الزكاة، حيث عفا عن بعض الأموال من وجوب الزكاة فيها، مثل الحُلِي الذي تتخذه المرأة زينة لها، وفي منع الزكاة في حلي النساء مقاصد عظيمة، تتبين في أمرين:
الأول: التيسير ومراعاة الجانب الترفيهي، فالفطرة البشرية للمرأة تميل إلى التحلي بالذهب والفضة، ولذلك فتح الإسلام المجال أمامها لتلبية هذه الفطرة، ما لم يكن فيه ما يخرجها عن هذا الإطار، كالهرب من إيتاء الزكاة من خلال كنز الذهب والفضة.
والثاني: ضبط السلوك لموافقة الفطرة، فإذا كان الإسلام قد عفا عن حلي النساء من إيتاء الزكاة مراعاة لفطرتهنّ؛ فإن هذا في الحلي المباح، أما إذا اتخذت المرأة حلياً ليس لها اتخاذه، كما إذا اتخذت حلية الرجال –كحلية السيف– فهو محرم، وعليها الزكاة(7).
وفي سبيل ضبط الفطرة البشرية أيضاً أوجب الإسلام الزكاة في حلى الرجال لأن التحلي بذلك ليس من الفطرة بل هو مناقض لها، وينطبق هذا أيضًا على الأواني من الذهب والفضة أو اتخاذهما تحَفًا، من هنا نستطيع أن نقول: إن الزكاة وُظِّفَت لإصلاح الفطرة، وظفت لإجبار الرجل على العودة إلى الفطرة، وَوُظِّفت لجعل السلوك الإنساني متلائمًا مع الفطرة الصحيحة.
__________________________
(1) الإعجاز التشريعي في الزكاة: د. رفعت السيد العوضي، ص 21.
(2) المصدر السابق، ص 4.
(3) إعجاز تشريع الزكاة: د. كوثر الأبجي، ص 248.
(4) متفق عليه: أخرجه البخاري (1395)، ومسلم (982).
(5) الأموال: أبو عُبيد القاسم بن سلّام، ص 543.
(6) الإعجاز التشريعي في الزكاة: د. رفعت السيد العوضي، ص 13.
(7) فقه الزكاة في المال والبدن: الشيخ عبدالرازق ناصر محمد، ص 43.