لا يُرى الإسلام مجردًا يمشي في الشارع، وإنما يُرى فيمن تخلَّقوا بأخلاقه، ولما سُئِلَتْ عائِشةُ عن خُلُقِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقالَتْ: «كان خُلُقُه القُرآنَ»(1)، ولذا فنظر الإسلام إلى الأخلاق ليس نظر من يراه شيئًا مُكمِّلًا للشخصية وجانبًا يُمكن إهماله أو التقصير فيه وتحصيل الصلاح من دونه؛ بل هو لبُّ البعثة، قال رسول الله ﷺ: «بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»(2)، وبه يتفاوت الناس في منازلهم عند الله تعالى، قال رسول الله ﷺ: «إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا»(3).
ومن هذه الأخلاق سلامة الصدر، فإنه من أكثر الأخلاق الفاضلة التي ظُلمت في واقعنا، الذي تسلطت عليه التصورات النفعية التي لا ترى بُعد الأخلاق الروحي وثوابه الآجل بشيء، وفي هذه المقالة نتعرض للتعريف بهذا الخلق العظيم، ثم التفريق بينه وبين ما يشتبه عليه من خلق ليس منه.
تعددت تعريفات سلامة الصدر عند أهل السلوك لشمولها التخلص من الآفات الكثيرة التي تنتاب القلب، فتارة يعرفونها بإرادة الخير كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: فالقَلبُ السَّليمُ المحمودُ، هو الذي يريدُ الخيرَ لا الشَّرَّ(4)، وتارة بأنه نفي الحسد والعُجب والكبر كما قال ابن العربي: لا يكونُ القَلبُ سليمًا إذا كان حقودًا حُسودًا، مُعجَبًا مُتكَبِّرًا، وقد شرَط النَّبيُّ ﷺ في الإيمانِ أن يُحِبَّ لأخيه ما يحِبُّ لنَفسِه(5)، وتارة بأنه بذل النصيحة كما سُئِل ابن سيرين: ما القَلبُ السَّليمُ؟ فقال: النَّاصِحُ للهِ في خَلقِه(6)، ومن أجمعه ما قال ابن القيم: والقَلبُ السَّليمُ هو الذي سَلِم من الشِّركِ والغِلِّ، والحِقدِ والحَسَدِ، والشُّحِّ والكِبرِ، وحُبِّ الدُّنيا والرِّياسةِ، فسَلِم من كُلِّ آفةٍ تُبعِدُه عن اللهِ، وسَلِم من كُلِّ شُبهةٍ تُعارِضُ خبَرَه، ومن كُلِّ شَهوةٍ تعارِضُ أمرَه، وسَلِم من كُلِّ إرادةٍ تزاحِمُ مُرادَه، وسَلِم من كُلِّ قاطعٍ يقطَعُ عن اللهِ(7).
منافعه
حث القرآن على سلامة الصدر بأعظم ما يُحث به، فنفى نفع الإنسان في الآخرة بجميع متاع الدنيا سواه، فقال الله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشَّعراء)، وامتدح المؤمنين السائلين اللهَ هذا الخُلق الرفيع، فقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 10)، وأنه من ثواب أهل الجنة لما استقاموا عليه في الدنيا، فقال تعالى: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف: 43)، وأن صاحبه هو أفضل الناس، فقد قيل: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ أفضَلُ؟ قال ﷺ: «كُلُّ مخمومِ القَلبِ، صَدوقِ اللِّسانِ»، قالوا: صَدوقُ اللِّسانِ نَعرِفُه، فما مخمومُ القَلبِ؟ قال: «هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لا إثمَ فيه ولا بَغْيَ، ولا غِلَّ ولا حَسَدَ»(8).
مضار إهماله
وكما أخبر الشارع بمنافع سلامة الصدر الآجلة والعاجلة؛ فقد أخبر كذلك عن مضار إهماله، فإنه مانع من الأُخوة الإيمانية الواجبة التي أُمرنا بها، قال رسول الله ﷺ: «لا تَباغَضوا، ولا تَحاسَدوا، ولا تَدابَروا، وكونوا عبادَ اللهِ إخوانًا»(9)، وفيه مرضاة الشيطان، قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الشَّيطانَ قد أَيِسَ أن يَعبُدَه المُصَلُّون في جزيرةِ العَرَبِ، ولكِنْ في التَّحريشِ بَيْنَهم»(10)، ومن عِظم مضاره أن سؤال الله السلامة منه كان من دعاء النبي ﷺ، قال: «رَبِّ.. تقبَّلْ توبتي، واغسِلْ حَوبتي، وأجِبْ دَعوتي، وثَبِّتْ حُجَّتي، واهْدِ قَلبي، وسَدِّدْ لِساني، واسْلُلْ سَخيمةَ قلبي»(11)، ولعل مضاره التي نراها في مجتمعاتنا أكثر من أن يحصيها كتاب، لذا وجب الاعتناء به عناية خاصة.
الفرق بينه وبين البلاهة
والمتأمل فيما ذُكر من صفة خلق سلامة الصدر يعلم أنه صادر عن علم ورجاء، فأما العلم فهو علم بحقيقة الدنيا الزائلة وحقارتها في جنب الآخرة الباقية، فلا يتعلق بالزائل ويفوته الباقي، وأما الرجاء فهو الرغبة في نقاء القلب ونفي ما يؤذيه في الدنيا ثم تحصيل ما عند الله تعالى من ثواب جزيل ودرجات عالية في الآخرة.
وأما البلاهة فهي الصادرة عن الجهل والغفلة، فإن الجهل سبب عدم التفريق بين الحق والباطل، فيصير بصاحبه إلى عدم المبالاة بسائر الأمور سواءً بسواء، فلا يعنيه جميع شأنه، ولا يفرق بين ما هو من حق الله وما هو من حق نفسه؛ فيجعل الكل واحدًا، ويسهُل بذلك استغفاله، ولا شك أن ذلك من النقص لا الكمال، فإن من الكمال معرفة الشر حتى لا يجد مدخلًا إلى النفس من حيث لا تشعر، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «لست بالخب ولا يخدعني الخبُ»(12).
إن واقعنا يفتقد كثيرًا هذا الخلق الحميد، ولا أدل على ذلك من استعار التناحر داخل نفس الصف المسلم، بل واستعارها على الأقدمين من الصالحين في أحيان كثيرة، وإنه لمن أولى ما يُعتنى به حتى تصفو نفوس المسلمين من أذى أنفسها حتى قبل أذى الغير.
_______________________
(1) رواه أحمد (25813) وغيره، وصحَّحه الألباني
(2) رواه البخاري في الأدب المفرد (273) وغيره، وصحَّحه الألباني
(3) رواه الترمذي (2018)، وصحَّحه الألباني
(4) الفتاوى الكبرى (5/ 264).
(5) أحكام القرآن (3/ 459).
(6) الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن أبي طالب (9/ 6122).
(7) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، ص 121.
(8) رواه ابنُ ماجه (4216) وغيره، وصحَّحه الألباني
(9) رواه البخاري (6076) واللفظ له، ومسلم (2558).
(10) رواه مسلم (2812).
(11) رواه أبو داود (1510)، والترمذي (3551)، وصحَّحه الألباني.
(12) أدب الدنيا والدين للماوردي، ص 25.