لقد توافرت في النبي صلى الله عليه وسلم صفات الكمال في أدبه وخلقه ورجاحة عقله؛ ليكون قدوة للعالمين، فهو الكمال المطلق في التكوين البشري، مثالاً للشخصية الإنسانية السوية المعتدلة بالفطرة السليمة التي خلق الله الناس عليها.
الاستقامة والاعتدال في حياته ﷺ
نشأ النبي صلى الله عليه وسلم محفوظًا ومعصومًا من كل ما يشين؛ فلم تعرف له هفوة، ولم تحص عليه زلة، فشبّ وحفظ الله يحوطه من أقذار الجاهلية لما يريد به من كرامته ورسالته، كان في بيت عمه أبي طالب الغلام الرزين المكتمل لا يساير الصغار في صغائر العادات والسلوكيات التي تحتاج تقويماً وإرشاداً، ولما بلغ الثانية عشرة ألحَّ على عمه أن يأخذه معه إلى الشام في قافلة تجارة قريش؛ ليكون على خبرة بالتجارة والمعاملات في الأسواق.
لم ينحرف في شبابه مع هوى أو شهوة، وكان أشد نفورًا من عبادات الأصنام، واتخذ لنفسه شهر رمضان في السنة يختلي فيه بغار حراء يتعبد فيه.
كان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقًا وأكرمهم حسبًا وأحسنهم جوارًا وأعظمهم حلمًا وأصدقهم حديثًا وأعظمهم أمانة، وأبعدهم عن الفحش وسوء الأخلاق التي تدنس الرجال حتى سمي في قومه «الصادق الأمين»؛ لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة، وحفظه من مكائد قريش والنيل منه، فيقول سبحانه: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة: 67).
رجاحة عقله واجتماع قريش على محبته
تميز النبي صلى الله عليه وسلم بكمال عقله وحكمته، فما كانت الرسالة الإلهية الهادية للناس تجيء لغير عقل كامل؛ فنشأ والعقل المكتمل حليته منذ أن استوى غلامًا، ولقد بدا ذلك لجده عبدالمطلب الذي أخذ يُعوّده أخلاق الرجال.
وقد أدركت قريش رجاحة عقله وحكمته في شبابه؛ فكانت تدعوه لحضور اجتماعاتها، ومن ذلك ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه حضر «حلف الفضول» في دار عبدالله بن جدعان.
ومن كمال عقله وقوة إدراكه أنه لم يخض مع الخائضين في منازعات الجاهلية وحروبهم، وارتضوا به حكمًا عندما احتدم الجدل حول من يضع الحجر الأسود منهم، وكادت السيوف تحكم بينهم، فحكم بإشراكهم جميعًا في وضعه، فارتضوا حكمه(1).
فصاحة لسانه وبلاغته
كان قومه مبدعين في فنون الكلام؛ فحباه الله فصاحة اللسان وبلاغة القول، وجوامع الكلم اصطفاء، فكان يجمع بين الإيجاز والوضوح في ألفاظ قليلة ومعانٍ كثيرة من غير تعقيد ولا تكلف ولا جفوة ولا خشونة؛ فكلامه قلَّ حروفه، وكثرت معانيه، وجل عن الصنعة، ونزّه عن التكلف، استعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي، فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام حُفّ بالعصمة، وهذا من دلائل نبوته.
الكمال الخُلُقي
كانت العرب تتخلق ببعض محاسن الأخلاق بما بقي من شريعة إبراهيم عليه السلام، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم ليتمم محاسن الأخلاق ويكمل ما انتقص منها، كما جاء في الحديث: «إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق»(2)، ويقول عبدالله بن عمر: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: «إن من خياركم أحسنكم أخلاقًا»(3).
وقد جاءت أخلاقه صلى الله عليه وسلم نموذجاً للكمال الخلقي والأفعال المستحسنة التي جبل الله تعالى عليها عباده من الوفاء والمروءة والحياء والعفة، وحب الفضيلة والتمسك بها والقيام بحقها، يشمل ذلك حسن عشرة ولطف مودة، ويشمل صلة الرحم ولطف المودة، وحسن العشرة، وجماع فضائل الأخلاق في تعامله مع الناس، والبعد عن كل ما يشين الإنسان، فكان دائم البِشر لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فاحش ولا عياب، بعيداً عن المراء، لا يتدخل فيما لا يعنيه، لا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، لا يتملكه الغضب فيخرج لسانه عن إرادته، يتآلف مع أصحابه، ويتغافل عن صغائرهم، ويمتدح محاسنهم، فإذا جلس بين أصحابه اتسم مجلسه بالهيبة والوقار، وقد وصف الله تعالى خلقه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم: 4)، وفي آية أخرى: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
لذا كان أصحابه يجلونه ويقتدون به في سلوكه وأعماله، فإذا أحب شيئاً أحبوه، وإذا ترك شيئاً تركوه، فاتخذ خاتمًا من ذهب أو فضة؛ فاتخذ الناس مثله؛ فلما رآهم قد اتخذوها رمى به، وقال: لا ألبسه أبدًا ثم اتخذ خاتمًا من فضة؛ فاتخذ الناس خواتيم من فضة(4).
لقد كان التكامل الخلقي في شخصيته صلى الله عليه وسلم معجزة ودليلاً على عصمته، فإذا كان الناس تجتمع فيهم بعض الفضائل؛ فإنها اجتمعت متكاملة في شخصيته صلى الله عليه وسلم، وقد سجلت كتب السير والشمائل دقائق أخلاقه بدقة متناهية لا تجدها في سير العظماء.
شهادة خصومه
لقد كانت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم مثار إعجاب الناس في الماضي والحاضر، وقد عبر عن ذلك عروة بن مسعود الثقفي -وهو يومئذ من المشركين- عن حب الصحابة له صلى الله عليه وسلم بقوله: أيّ قوم والله، لقد وفدت على الملوك، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت ملكًا قطُّ يُعظِّمه أصحابُه ما يُعظِّم أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا أمرهم ابتدوا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحِدُّون إليه النظر تعظيمًا له»(5).
ونالت شخصية الرسول الكريم اهتمام المستشرقين في العصر الحديث بالرغم من عدم إيمانهم بنبوته فإنهم عبروا عن جوانب عظمته؛ ويكفي أن نشير إلى ما كتبه مايكل هارت في كتابه «العظماء مائة» بقوله(6): لقد اخترت محمداً صلى الله عليه وسلم في أول هذه القائمة، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمداً عليه السلام هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستويين الديني والدنيوي، وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًا وعسكريًا ودينيًا، وبعد 13 قرناً من وفاته؛ فإن أثر محمد ما زال قويًا متجددًا.
_______________________________
(1) سيرة ابن إسحاق، تحقيق محمد حميد الله، ص107.
(2) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني (2833).
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري: كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم (6/ 664)، حديث (3366)، ويقول ابن حجر: فاحشًا ولا متفحشًا أي ناطقًا بالفحش، والمتفحش: المتكلف لذلك أي لم يكن الفحش له خلقًا ولا متكلفًا.
(4) فتح الباري: كتاب اللباس، باب: خاتم الفضة (10/ 330)، حديث (5528).
(5) فتح الباري: كتاب الشروط، باب: الشروط في الجهاد والمصالحة (5/ 388)، حديث (2583).
(6) طبعة المكتب المصري الحديث، ص13، وقد طبع الكتاب أنيس منصور بعنوان «الخالدون مائة أعظمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم».