لا بد أن نبدأ الحديث عن النصر من واقعة «أحد»، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة، وكانت الجراح فيها شديدة جداً، قتل من المسلمين عدد كبير، منهم حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومصعب بن عمير، وخالف الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان بعض الشباب قد اضطروه في البداية للخروج لملاقاة القوم، ووجدها ابن سلول زعيم المنافقين فرصة للتولي.
التعافي السريع
كان المنطق بعد تلك الفاجعة أن يجلس المحاربون المجاهدون في ظل شجرة، أو تحت سقف خيمة لحين أن يستفيقوا من هول ما رأوا وشدة ما عانوا، فالأجساد منهكة، والنفوسة كسيرة؛ لكن جمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بعد هدوء الصليل، وقال لهم بعدما انكفأ المشركون: «استووا حتى أثني على ربي عز وجل»، فصاروا خلفه صفوفاً، فقال: «اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت.. الحديث»(1).
«حمراء الأسد» وقوة الإيمان
لم يتوقف الأمر عند حدود «أحد»، فقد قدم رجل من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أبي سفيان وأصحابه فقال: نازلتهم، فسمعتهم يتلاومون، ويقول بعضهم لبعض: قد بقي منهم رؤوس يجمعون لكم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وهم بالحالة التي سبقت بطلب العدو قائلاً: «لا ينطلقن معي إلا من شهد القتال»، فقال عبدالله بن أُبي: أنا راكب معك، فقال: «لا»، فقد رأى أن من لم يشهد القتال على قوته ضعيف لا يصلح لاستكمال السير، واستجاب الأصحاب سريعاً(2)، وهنا أثنى الله سبحانه عليهم: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ) (آل عمران: 172).
النصر الموعود والنصر المأمول
حين تقع المعارك بين المسلمين وغيرهم، أو بين أهل الحق وأهل الباطل، يتوقع الجميع نصر أهل الإسلام، ونصر أهل الحق، فهذا هو المنطق، وهذا وعد إلهي، والوعد الإلهي لا يتخلف؛ حيث يستند الجميع إلى قوله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر: 51).
هذه الآية يحملها كل من يقرأها على الغلبة والظهور المحتم لأهل الحق على أهل الباطل، وللمظلوم على ظالمه في الحياة.
فالنصر يكون عطاء، والنصر يكون جوداً يعم، والنصر نجاة وتخليصاً، ومعونة، وعوناً، ويكون رزقاً من الله لعبده.
يسلط الطبري الضوء على ما يلاحظه بعضهم من تخلف ما في موعود الآية السابقة في نظره، حيث الوعد المؤكد للمرسلين والصالحين، فيقول: إما أن الخطاب ورد عاماً والمراد الخصوص، وهو استعمال عربي شائع، فننصر رسلنا؛ أي بعضهم لا كلهم، وإما أن يكون النصر بإعلائهم على من كذّب، كالذي كان مع داود، وسليمان عليهما السلام، أو انتقاماً ممن حادّهم وشاقهم بإهلاكهم وإنجاء الرسل، كالذي حصل مع نوح عليه السلام، أو انتصاراً لهم ممن آذاهم إما بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فُعل بقتلة يحيى عليه السلام(3).
إذاً الآية لها مناطات شتى في فهمها، وليس ما يتبادر منها هو المراد وحده، وأطر النصر متفاوتة، وأزمنته كذلك، والذي لا يتخلف هو النصر لكن بمعناه الواسع، لا بدلالته القاصرة عند بعضهم.
غزة المجاهدة
بعض من يتناول النصر ينظر له بالعين القريبة الآنية، والزمن القريب العاجل، والنصر لا يكون كذلك أبداً، فهناك فارق بين النصر والانتصار، فبعض الناظرين يريد النصر عاجلاً على من شاق الحق أو عطَّل طريقه، أو ظلم وبغى، وهو في هذا غافل عن اسم الله تعالى الحليم، فالحليم هو ذو الصفح، والأناة، لا يستفزه غضب، ولا يستخفه جهل جاهل، ولا عصيان عاص، والمتأني الذي لا يعجل بالعقوبة(4)، فالحلم يطال الجميع، ولكن العدل ينزل بالجميع، فمهما أمهل الظالم، فمنقلبه لا شك فيه.
لا يزال عمر المختار (1350هـ) مقدراً بين كل الأحرار، وهو الذي سُحب بالسلاسل، وشنق بحبال من جاهدهم حق الجهاد! فهل كان خاسراً بعد أن خاض معركة الشرف ضد الباغي المعتدي؟
وهل كان عليه أن ينزل على حكم أعدائه فيعيش تحت حكمهم وإذلالهم عيش الدجاج يربى في الحظائر للذبح حين يحين الموعد؟!
أهكذا ينبغي أن ننظر للواقع المر الذي تعيشه غزة وأهلها، وأنه كان يجب عليهم الرضا بحياة الإذلال للصهاينة؟!
المؤمن لا ييأس
علينا ألا نرى أدعيتنا للمجاهدين قد تخلفت، وما آتت مرادنا منها، أو أن قنوت القانتين بالغدو والآصال ذهب سدى، فمعارك المجد قد تطول، وقد لا تنتهي إلا بعد عقود.
لقد ظل الصليبيون في سواحل فلسطين ولبنان وبيت المقدس ما يقارب قرنين، ولم يركن المسلمون عن منازلتهم وجهادهم، ولم يكف العلماء وأهل الصلاح عن الدعاء والتسديد للمجاهدين، حتى جاء الأمر على تمامه بعد 200 عام!
فهل حاسب الناس وقتها ربهم على تأخر النصر؟ وهل كفّ الصالحون عن الدعاء للمجاهدين؟ وهل يأس المجاهدون وسلموا أنفسهم لمصائر يتحكم فيها الصليبيون؟
لقد مضت الأمة في طريق العلم والجهاد على السواء، لا يفتر مجاهد، ولا يقف طالب علم عن الطلب، فالنتائج الكبرى تحتاج إلى تضحيات كبرى، وإن المسلم بين حسنيين، وأحواله كلها يتقلب فيها في فضل الله ومنته، ومهما تأخر مأموله فهو على سبيل الوصول.
لكننا اليوم كما قال الغزالي بالأمس: إن اليهود أذل وأقل من أن ينتصروا في معركة، إن أخطاءنا وحدنا هي التي صنعت لهم النصر، وأغرتهم بالنباح العالي(5).
فلتطمئن القلوب إلى موعود الله تعالى، وأن النصر مع الصبر، وأن وعد الله لا يتخلف، ولكل أجل كتاب، ولا يمكن أن يكون الشهيد الذي اغتالته يد الغدر في غزة فظل يكافح حتى يسجد، فمات شهيداً ساجداً، ووضع بفعله الشامخ كل الأحرار في موضع الأماني لمثل مآله، أفكان هو المنتصر أم الغادر الذي اغتاله؟ فأي الفرقين أهدى؟ آلقاتل الجبان؟ أم الساجد الشهيد، هكذا غزة اليوم تضع وتصنع الدرس لأجيال قادمة، ترى في ثباتها وثبات مؤيديها عزاً ونصراً قريباً على من قال الله في أسلاف أمثالهم: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ) (الأنفال: 59).
__________________________
(1) أخرجه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك (3/ 23)، وقال صحيح على شرط الشيخين.
(2) البداية والنهاية (4/ 56).
(3) انظر: جامع البيان (21/ 400)، بتصرف، وانظر: تفسير ابن كثير (7/ 136).
(4) شأن الدعاء (1/ 63).
(5) الحق المر (4/ 113).