مَن يكون هؤلاء العظماء السبعة، الذين يعيشون بيننا؟ ولماذا حازوا التقدير والشرف والمكانة العظمى، في الدنيا والآخرة، فلا تضرهم الفتن الكبرى ولا يحزنهم الفزع الأكبر؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق، حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقْويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً» (صحيح الجامع).
ويبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، في زحام شديد وعرق غامر وانتظار طويل، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشّرنا بأن لله عباداً سيظلهم في ظله في هذا اليوم، فقال: «سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه» (رواه البخاري).
هؤلاء سبعة أصناف من أمتنا –في كل زمان ومكان- ارتفعوا بأخلاقهم المكرمة، فتنعموا بظل العرش، وقد نال هؤلاء العظماء السبعة تلك الخصوصية والمنزلة، وذلك التقدير والقرب، بالإخلاص لله ومخالفة الهوى؛ وهم يكوّنون معاً، بصفاتهم العظيمة والمثل العليا والقدوات الحسنة، أركان المجتمع الصالح في انسجام وتناغم وتكامل.
أولاً: العدل والإصلاح:
فأول هؤلاء السبعة الإمام العادل، الذي يحكم في رعيته بالعدل بشريعة الله، ويحافظ على حقوقهم، ويرعى مصالحهم، وقد تمكن من العدل بمخالفة هواه، يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء: 135)، ويقول سبحانه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، يشمل الحكم بينهم في الدماء والأموال والأعراض، القليل من ذلك والكثير، على القريب والبعيد، والبر والفاجر، والولي والعدو.
ثانياً: النشأة والتربية الصالحة:
والثاني: شاب نشأ مجتهداً في عبادة ربه، ملتزماً بطاعته في أمره ونهيه، وخص الشاب بالإشارة؛ لأن العبادة في الشباب (للفتيان والفتيات) أشد وأصعب؛ لكثرة دواعي المعصية وغلبة الشهوات؛ فإذا لازم الشاب العبادة حينئذ دل ذلك على شدة تقواه وعظيم خشيته، قد خالف هواه وآثر عبادة الله على داعي شبابه، ولا شك أن تربية والديه ومعلميه كان أثرها عظيماً على هذه التنشئة.
ثالثاً: العبادة قلباً وقالباً:
والثالث: الرجل المعلق قلبه في المساجد؛ فهو شديد الحب لها، يتردد عليها ويكثر مكثه فيه، يلازم الجماعة والفرائض وينتظر الصلاة بعد الصلاة، كأن قلبه قنديل من قناديل المسجد! يقول الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ) (النور: 36)، يدخل في ذلك الصلاة؛ فرضها ونفلها، وقراءة القرآن، والتسبيح، والتهليل، والدعاء والذكر، وتعلم العلم وتعليمه، والاعتكاف، وإنما حمله على ذلك مخالفة الهوى الداعي له إلى أماكن اللذات واللهو واللغو.
رابعاً: الأخوة الصادقة والحب في الله:
والرابع: رجلان أحب كل منهما الآخر في سبيل مرضاة الله، لا لغرض دنيوي، مخالفين الهوى في علاقة المصالح، وحبهما صادق مستمر في حين اجتماعهما وافتراقهما، يقول الله سبحانه: (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) (الأنفال: 63)، وكانت الموالاة الإيمانية لها شأن عظيم، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين المهاجرين والأنصار أخوة خاصة، غير الأخوة الإيمانية العامة.
خامساً: العفّة والمراقبة:
والخامس: رجل طلبته للفاحشة امرأة حسناء ذات حسب ونسب، ومال وجاه، فخالف هواه وفقال: إني أخاف الله، يقول ذلك بلسانه زجراً لها عن الفاحشة، ويقول ذلك بقلبه ويصدقه فعله، بأن يمنعه خوف الله عن اقتراف ما يغضبه، وهكذا كان يوسف عليه السلام؛ (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ) (يوسف: 23)، وكذلك يكون دأب المؤمنين والمؤمنات: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ) (الأحزاب: 35)؛ حفظا عن الزنى ومقدماته ودوافعه من كشف العورات والنظر إلى النساء والرجال في الحقيقة والصور والأفلام والإنترنت، والخلوة والصداقة المحرمة.
سادساً: الإخلاص والتراحم:
والسادس: رجل تصدق، فبالغ في إخفاء صدقته على الناس، وسترها عن كل أحد حتى عن نفسه، فلا تعلم شماله ما تنفق يمينه، للمبالغة في الإخفاء والإسرار، وهذا أفضل وأبعد من الرياء، وإن كان يشرع الجهر بالصدقة والزكاة إن سلمت عن الرياء، وقصد بها حث الغير على الإنفاق وليقتدي به غيره، ولإظهار شعائر الإسلام، قال سبحانه: (إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاء فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ) (البقرة: 271).
سابعاً: الذِّكر والخشية:
والسابع: رجل ذكر الله بلسانه خالياً، وتذكر بقلبه عظمة الله تعالى ولقاءه، ووقوفه بين يديه، ومحاسبته، حال كونه خالياً منفرداً عن الناس؛ لأنه حينها يكون أبعد عن الرياء، أو خالياً بقلبه من الالتفات لغير الله حتى ولو كان بين الناس، فسالت دموعه خوفاً من الله وخشية، كما قال سبحانه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (الأنفال: 2).
لنتخيل مجتمعاً يسود فيه: الحكم بالعدل والإنصاف.. الشباب في الطاعة.. القلوب تتعلق بالمساجد.. الأخوة الصادقة والحب في الله.. الابتعاد عن الفواحش.. التراحم وبذل المال.. الذكر والخشية من الله
لنتخيل مجتمعاً يسود فيه صفات هؤلاء العظماء السبعة، يسود فيه الحكم بالعدل والإنصاف، وينشأ الشباب والفتيات فيه نشأة الطاعة والتربية الصالحة، وتتعلق القلوب بالمساجد للعبادة قلباً وقالباً، وتنتشر فيه الأخوة الصادقة والحب في الله، ويترفع فيه الرجال والنساء عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويقاومون المغريات بالعفة والمراقبة لله.
لنتخيل مجتمعاً شعاره التراحم وبذل المال للفقراء وكل ما يصلح المجتمع إخلاصاً بعيداً عن الرياء والسمعة، مجتمعاً ترتفع فيه الأدعية النقية والتسابيح التقية في قيام الليل وتبتل الأسحار، ممزوجة بدموع الخشية من الله.
إنه المجتمع المسلم المنشود، الذي وإن صعب تحقيقه على مستوى الدول، فلا يصعب تحقيقه على مستوى الأفراد والمجتمعات الصغيرة.. ولنجرِّب!
إن المدينة الفاضلة (Utopia) من أشهر الأمور الفلسفية التي أثارها أفلاطون، قبل الميلاد، وهي مدينة خيالية يحكمها الفلاسفة، يحلم بأن يسكنها أناس طيبون يعيشون فيها في سلام ووئام وتكافل اجتماعي، وهي لم تتحقق أبداً، كما لم تتحقق مع كل الفلسفات الأرضية القديمة والحديثة.
وإذا كان هنالك مدينة فاضلة واقعية على مر العصور فهي تلك التي أسسها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فصبغت حياتهم أخلاق الإسلام من العدل والإخلاص والتسامح والتآلف والتراحم والعفة، وحسن الخلق والتعامل، وشاعت مشاعر الحب، وأروع الأمثلة من العطاء والإيثار، وكانوا جسداً واحداً في السراء والضراء، والآلام والآمال، كأنه قد استنسخ فيهم هؤلاء العظماء السبعة مرات ومرات، وهذا ما نطمع أن يحدث في مجتمعاتنا الآن.