افعل كل ما يدفعك إليه دينك حتى النهاية، ويقينك أنه ليس في النهاية إلا الجنة، ويجدر بك كمسلم أن يكون لك مطلب جليل فيها، هل بالغت واشتط بي الخيال؟ لا.
وإن لم تثق بي فثق بقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؛ أفشوا السلام بينكم»(1).
تأمل العبارات الشريفة، إنها تحملك بيسر وسهولة إلى الإيمان والحب والجنة، لكأن إلقاء السلام يجعلك تحصد حباً من قلوب قد تتفق أو تختلف مع مذاهبها ومشاعرها، وإذا عرفك المسلمون هكذا، فإن ذلك سوف يمطر عليك حبهم.
وهكذا وبهذا القول الرقراق ينفذ صلى الله عليه وسلم إلى مقصده، فيضع يدك على عمل من فضائل الأعمال الذي ينلك النجاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، إنه يعلمك كيفية جلب الحب والتآلف وإزالة التنافر والتشاحن في الدنيا ثم الفوز بالجنة في الآخرة.
والسلام هو التحية التي شرعها عز وجل لعباده، وإفشاؤه يعني إظهاره في طليعة كل أمر، وإعلانه في مقدمة كل حال، وصيغته كما هي عند بعض العلماء «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، فاحفر هذا القول الشريف في ذهنك، وستحدثك الأحداث يوماً بأن إلقاءك للسلام سيخمد كل مشاعر الكراهية في قلبك كما سيخمدها تجاهك، حتى عند من أبغضته بصمت، ومقتك هو بمثله.
وأصخ السمع له صلى الله عليه وسلم الذي ربما استمهل الصحابي الذي سأله: أي الإسلام خير؟ حتى فرغ من سؤاله، ليضع أمامنا كمسلمين هذا المجال الرحب للنجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة، فقال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف»(2)؛ فارصد هذا الأمر، واحتفظ بحروف السلام على لسانك وبمعناه في قلبك، وألق السلام على المسلم حتى لو لقيته بعد قليل ودعك من الكذبة الكبيرة «كثرة السلام تقل المعرفة»، وأنا أنزهك عن التفكير بهذا الشكل، فكيف يولد الحب بين اثنين يتجاهل كل منهما الآخر حتى لو ضربت في طلبه الأبواق؟
فاجعل لسانك مشرعاً دائماً لإلقاء السلام ودع عنك قولي، واقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا لقي أحدكم أخاه فليسلم عليه، فإن حالت بينهما شجرة أو جدار أو حجر ثم لقيه فليسلم عليه»(3).
ما يحكمنا هو أوامر الله عز وجل ووصايا النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل أمر أو وصية منهما ابحث لنفسك عن مكان، وفي هذه الوصية ستشعر بسلام الكلمات، فأنت عندما قلت: «السلام عليكم»؛ دعوت له كمسلم بدعاء عام بالسلامة من كل آفة، وعندما يبادلك التحية: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته»؛ ستشعر بدفء الكلمات لأنه يرد لك نفس الدعاء، أتلتقيان وما بينك وبينه إلا همسة بقراءة السلام إن ظهر بها صوت أحدكما سمعها صاحبه، ولا تتبادلان السلام؟!
ولا نظن السلام هنا إلا ستراً للدخول إلى القلوب، ينفذ بك إلى ما تريد، وهل تريد غير الجنة؟ أو يغفل عن الشيء من أراده؟ النبي صلى الله عليه وسلم يناديك: «.. أفشوا السلام بينكم».
ألا ترى بأن إلقاء السلام والأذان يشعران الإنسان بأنه في موطنه الأصلي مهما بعد هذا الموطن؟ ألا تعلم كمسلم أن الجهر بالسلام أدعى لإدخال الأمان والسرور على قلب المسلم، وأنك بإلقائه قد أتيت السُّنة؟ ألا تعلم أنه إذا ألقي عليك فرده واجب باتفاق العلماء؟
قال النووي: وأما جواب السلام فهو فرض بالإجماع، فإن كان السلام على واحد فالجواب فرض عين في حقه، وإن كان على جمع فهو فرض كفاية؛ فإن أجاب واحد منهم أجزأ عنهم وسقط الحرج عن جميعهم، وإن أجابوا كلهم كانوا كلهم مؤدين للفرض، فإن لم يجبه أحد منهم أثموا كلهم(4)، وقد توضح لك الآية الكريمة: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) (النساء: 86) أن رد السلام واجب وتشد عزمك على رده بأحسن منه.
ومن الذي يبدأ بالسلام؟ لقد سئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، الرجلان يلتقيان، أيهما يبدأ بالسلام؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «أولاهما بالله»(5)، إنه صلى الله عليه وسلم يعلمك أن إلقاء السلام لا يدعك ضئيل الشأن، بل يقربك من الله والفوز برحمته، فلا تمر من طريق إلا وتترك بإلقاء السلام أثراً حلواً فيمن يلقاك، أو في من تدخل عليه.
قال صفوان بن أمية: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فدخلت عليه ولم أسلم، ولم أستأذن، فقال صلى الله عليه وسلم: «ارجع فقل: السلام عليكم، أدخل؟»(6)، هذا التصرف الشريف يردعك عن هذا الفعل، فهل ترتدع وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا) (النور: 27)؛ إذاً فدخول البيوت دون سلام واستئذان يكون بمثابة منقصة في الإنسان.
وانظر في الدعوة الإلهية، إنها تجاهر بتوفير الأمان لك ولغيرك فقاربها واعمل بها، ولمَ لا نلقي التحية على أصحاب البيت وقد ألقى الله تحيته علينا؟ (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً) (النور: 61)، وفي تفسير الآية قال الطبري: إذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد، فقل: السلام عليَّ وعلى عباد الله الصالحين.
ما نريد أن نخلص إليه أن الأخلاق التي ينتظمها قوله صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» إن اختلفت مسمياتها فقد اتحدت غايتها، وهي وسيلة يسيرة للجنة، فانهض إليها إن كنت ذا همة.
وأعتقد أنه بمقدورنا الآن أن نتفق على أن إفشاء السلام لا تتحمله الكراهية بين الناس، فإنها وإن كانت تقرض قلوبنا، فقد يقرضها إفشاء السلام، أو على الأقل يلزمها حدها ولا يجعلها تتمدد في القلوب، استجلِ هذا المشهد وستشعر بأن الأمر على ما يقول صلى الله عليه وسلم، حتى إنه يُلقَى على الصبيان، فقد مر أنس رضي الله عنه على صبيان فسلم عليهم وقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله(7).
والآن، سلام عليك، عزيزي القارئ، فلا يجب ترك السلام عند الانصراف من المجلس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلّم، ثم إذا قام فليسلّم، فليست الأولى بأحق من الآخرة»(8).
______________________
(1) حديث صحيح: أخرجه مسلم (54)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (57).
(2) حديث صحيح: أخرجه البخاري (12)، ومسلم ( 39).
(3) حديث صحيح: صححه الألباني في صحيح أبي داود (5200).
(4) المجموع شرح المهذب للنووي (4/ 499).
(5) حديث صحيح: أخرجه أبو داود (5197)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2694).
(6) حديث صحيح: أخرجه الترمذي (2710)، وصححه الألباني في أبي داود (5176).
(7) حديث صحيح: أخرجه البخاري (6247)، ومسلم (2168).
(8) حديث حسن: أخرجه أبو داود (5208)، والترمذي (2706).