- بسم الله الرحمن الرحيم: “.. إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ” (يوسف:28)
الفصل الأول
الحمد لله الباقي وكل من عليها فان، العظيم الذي حارت لإدراك كنه صفاته العقول والأذهان، خالق الخلق ومسبب الأسباب ومكوّن الأكوان، وصلى الله على سيدنا محمد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه في كل وقت وأوان، وبعد:
فإن الله تعالى من عظيم قدرته، ولطيف صنعه وحكمته، دبرّ الأشياء والأمور، وحكم بتغيير الأزمان والدهور، وجعل حديث الأولين عبرة للأمم الآخرين، لكي يرى الإنسان العبر التي حدثت لغيره فيعتبر، ويطالع حديث الأمم السابقة، وما جرى لهم فينزجر، فسبحان الذي جعل سيرة الأولين عبرة لقوم آخرين.
حكى والله أعلم وأحكم، وأعز وأكرم، إنه كان فيما مضى وتقدم، من قديم الزمان وسالف العصر والأوان فتاة اسمها شهر زاد، جميلة القد زكية الفؤاد، آنست قلب الملك شهريار، وشغلت لبه في الليل والنهار، وسرّت بذكائها والدها الوزير، بما ملكته من عقل وتدبير، فجعلت الملك الجبار، يخضع لها وينهار، ويكف عن قتل البنات البريئات العذارى، ويفتح باب الأمل للخائفين والحيارى..
بعد شروق الشمس في يوم ربيعي دافئ، نقر الوزير دندان باب المقصورة، فسمع صوت ابنته “شهر زاد” تدعوه إلى الدخول:
– تفضل يا أبي. كنت في انتظارك.
بين الخوف والرجاء، قال الوزير:
– قاربنا الألف ليلة يا ابنتي، وقلبي يغوص في أعماقي.
– تفاءل يا أبي.
كيف أتفاءل يا بنيتي والسيف على الرقاب؟
– الأمل في الله يا أبي.
– تسع وثمانون ليلة بعد تسعمائة؛ وأنت تحكين للرجل وهو يؤجّل الموت، ماذا بعد؟
تبسمت الفتاة، وقالت فيما يشبه الثقة:
– لا تنس يا أبي أنه حتى الآن، بقيت تسع وثمانون وتسعمائة فتاة حية بما فيهم أنا وأختي دنيا زاد على قيد الحياة.. وقد أنجبت له ثلاثة أطفال يشبهون كرات النور، والملك يحبهم أكثر من نفسه، كما سلّيته بحكايات عديدة..
قاطعها أبوها وكأنه يرتجف:
– إن حبه للدم أكبر من حبه للأطفال والحكايات! فأنا أعرفه منذ زمان بعيد، وعاشرته أكثر من ظله!
قالت وهي شبه واثقة:
– لقد تغيّر يا أبي، نسي الأمر والنهي.. لم تعد التقطيبة تعرف طريقها إلى جبينه.. آه لو رأيته وهو يبدو في بعض الأحيان تائهًا حائرًا كسيرًا؟ لن تقول إن هذا كان ملكًا يرتعد من ذكر اسمه الإنس والجن! لقد صار شيئًا آخر!
احتضنت طفلها الصغير، وراحت تلقمه ثديها، وتابعت حديثها إلى والدها الكهل الذي ابيض فوداه، وذهب بريق عينيه من أجلها:
– آه لو عرفت كيف كانت الحكايات تستهويه وأنا أتلوها عليه! أما حبه للأطفال فهو غير مسبوق، مذ يفتح عينيه في الصباح يأمر أن يكونوا بين يديه، فيبتسم لهم ابتسامة مضيئة لم يسبق أن عرفها وجهه، ويقبّلهم كأنه يريد أن يلتهمهم من شدة الحبّ!
قال أبوها بأسى وأسف:
– كم سفك دماء بريئة، والمحظوظ من كتب له أن يذوب جسده على مهل في ظلمات السجون.. إن ظلمه بلا حدود، وعشقه للدم والسلطة مثل حاجته للهواء الذي يتنفّسه.
ثم قال الرجل وهو يحاول أن يصدق ابنته:
– هل مثله يتأثر بالحكايات؟ لا أظن!
قالت شهر زاد:
– لقد حكيت له عن الملوك والصعاليك والإنس والجن والحيوانات والوحوش، والطيبين والأشرار. حكيت له عن شهر باز وشاه زمان، والملك يونان والحكيم رويان، والوزير نور الدين وشقيقه شمس الدين، والتاجر والعفريت، والصيرفي واللص، وحكايات السندباد، والجن المحبوس في القماقم، ومكر النساء، وعجيب وغريب، والسلاطين والعشاق، والخلفاء والأعراب.. والحكماء والشعراء، والدنف ورأس الغول، وأبو قير وأبو صير، وعبد الله البري وعبد الله البحري…
سأل أبوها متهكمًا:
– وهل تظنين أنه اتعظ بما سمع، وتخلى عن تركيبته النفسية التي لا تعرف غير حب ذاته وسفك دم الآخرين؟
– دعني أحك له الحكاية الأخيرةـ وبعدها يفعل الله ما يشاء!
هبط الوزير من القلعة يترنّح داخله بين الرجاء والخوف.. صار لابنته ثلاثة أطفال، ومصيرها مع أختها يهزّ أعماقه ويعصف بتوازنه، وحتمٌ عليه كما يتصوّر أن يصانع الملك ويطيع أمره من أجلهما، وعليه أن يبدو سعيدًا بكل ما يصدر عنه من قرارات ظالمة، ولو كان من بينها ذبح البنات العذارى ومنهن ابنتاه..
لمح الوزير شيخ الإسلام قادمًا من بعيد بعمامته المهيبة ومشيته الوقور، فشعر بالحرج لأن الشيخ سيستوقفه ويسأله عن شهر زاد والملك، وهو يحب أن لا يتكلم في الأمر خارج القلعة، لأن البصّاصين يتسمّعون ما يقال وينقلونه إلى مقام الباب العالي، حاول أن يتمهّل بموكبه كي لا يلتقي وجها لوجه مع الشيخ، ولكن الشيخ كان أمامه رغما عنه، وبعد السلام والتحيات، سأله الشيخ عن ابنتيه، فأجاب:
– ادع الله لهما.
قال الشيخ:
– هل استطاعت شهرزاد أن تحوّل الملك؟
– إنها متفائلة وتحكي له القصص ولكنّي غير متفائل!
– لماذا يا حضرة الوزير؟
– لأني أعرف طبيعته، وأعلم سعار شهوته للدم وقسوته الظالمة!
– متى تفرغ من حكاياتها؟
– بقيت حكاية واحدة أخيرة، وبعدها يفعل الله ما يشاء!
قال الشيخ:
– تفاءل يا سيدي، واجعل أملك في الله.
– أنعم به وكيلًا وحسيبًا.
قالت دنيا زاد لشهر زاد:
– متى تنتهي الحكاية الأخيرة يا أختي؟
ابتسمت، وقالت:
– حين يصيح الديك، وتهرب جيوش الظلام، وتقبل خيوط الفجر!
– هل ستطول الحكاية؟
– حتى الليلة الأولى بعد الألف.
ثم أردفت مبتسمة:
– إنها حكاية عن امرأة تستحق الموت، ولا تستحق الحياة.
– لا توجد امرأة تستحق الموت، النساء- دائما- يا أختي ضعيفات مظلومات!
– كلا يا دنيا.. فقد قال ربنا سبحانه لصاحبات امرأة العزيز، على لسان العزيز: “.. إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ ۖ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ”!
– هذه طبيعة النساء في سعيهن للحصول على الرجال.
– أجل، ولكنها طبيعة تفسد وتتحول إلى مرض عضال حين تحول المرأة حياة الرجال إلى جحيم.
– أنت حولت الملك الجبار إلى قط أليف! أليس كذلك؟
– هناك من النساء من يكرهن الحياة، بل يكرهن أنفسهن!
– لا تبالغي يا أختي!
– لا أبالغ؟ التاريخ يسجل أخبار كثيرات منهن..
ثم ضحكت، وهي تقول لدنيا زاد:
– قرأ عليّ شيخي كتابًا اسمه: “ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار”، وهو كتاب يتناول مكر النساء ضد الرجال من بداية التاريخ حتى عصر شهر يار- ومؤلفه اشتهر بـ “ابن القطعة” واسمه “إسماعيل بن نصر بن عبد المحسن السلاحي”، وظهر في شهر شوال سنة 1017هـجرية.
دهشت دنيا زاد:
– حقا؟ لا أصدق أن هناك كتابًا يعدّ النساء ابتلاءً!
– عليك أن تصدقي، فالكتاب موجود في مكتبة شهر يار، ولو تصفحته ستجدين المؤلف (ابن القطعة) يصدّره بقصيدة طويلة تزيد عن ثمانين بيتا يجعل كلًا منها متنًا أو عنوانًا، ويعدد من خلالها صور المكر والابتلاء، ويضع تحتها قصصًا تؤيد كل صورة.
– شوقتني يا شهر إلى القصيدة والكتاب، ماذا يقول في القصيدة؟
– لا أستطيع أن أقرأ القصيدة كلها، ولكني أُسمعك بعضًا منها.
– كلي آذان صاغية.
– يقول ابن القطعة يعدّد المعايب والمثالب في وصف النساء الغالبات لكل غالب:
يا من تُشدّ لفضله والبرّ نائله الركائبْ
اسمع وصيةَ ناصحٍ قد هذّبته يدُ التجاربْ
واحرصْ بأنكَ لا تزالُ لأمرهنّ إذا مراقبْ
لا تكنُنْ إلى النساء وعُدهنّ من الأجانبْ
واضربن هن إذا جنيْنَ جنايةَ ضربَ العقاربْ
واهجر فديتك ما استطعت لهن هجْرا كالمحارب
لا يعجبنك ما ترى منهن وانظر في العواقبْ
يظهرن لي حسنَ الثناء ولهنَّ في غيري مآرب
كم شيَّبَتْ أفعالُهُنّ من النواصِي والذوائبْ
فلهن في المكْرِ الخفِيِّ مناقبُ بين المناقبْ
…
من كيدهِنَ تصيبُكَ البلْوى وآفاتُ المصائبْ
فحبائلُ الشيطانِ هنّ له مطيعاتُ الجوانبْ
ما كادت شهرزاد تنتهي من إنشاد الأبيات التي ألقتها بتنغيم حتى انفجرت دنيا زاد ضاحكة، ووصلت إلى حد القهقهة العالية، وجعلت شهر تنبهها إلى أن ذلك قد يزعج الملك ويوقظه في مقصورته، وتطلب منها أن تكف، لأن ذلك له عواقب غير مأمونة، ولكن دنيا استمرت في الضحك حتى تعبت، وكفّت بعد أن امتلأت عينيها بدموع الضحك. ثم قالت لأختها:
– أليست هناك كتب أخرى عن النساء الأخيار؟
– بلى، وقد خصص القرآن الكريم سورة كاملة لأم المسيح مريم البتول، وأشاد بامرأة فرعون، ونساء المؤمنين الطيبات الصالحات.
قالت دنيا زاد ساهمة:
– إياك أن يرى شهريار كتاب “ابتلاء الأخيار بالنساء الأشرار”، فقد ينقلب عليك ويعدّك واحدة منهن، فيعود لهوايته القديمة!
فهتفت شهر زاد فيما يشبه الثقة الكاملة:
– لا تخافي! فهوايته كانت مرتبطة بحبه للدم. وأظنه الآن قد تغيّر، إن الذي أخشاه أن يهجر فكرة الزواج مثلما هجره كثيرون في بعض السنوات نتيجة لشيوع فكرة “النساء الأشرار”، وخاصة من أهل التصوف، ومن تأثروا ببعض الأحاديث الموضوعة التي تحض على عدم الزواج ورواها بعض القصّاص الشعبيون والحكاءون الذين يحبهم العوام.
– لا أظن الملك سيزهد في المرأة، وسيظل الزواج ما بقي البشر.
– سوف نرى.
يتبع..