التداول الذي اهتدت إليه حركة التوحيد والإصلاح يجعل من الصعب لأي كان من داخل الحركة أو خارجها التكهن بنتائج الانتخابات
ثلاثة عوامل أدت دوراً كبيراً في انتخاب عبدالرحيم الشيخي رئيساً للحركة: غياب منطق «الشيخ والمريد» داخل الحركة.. النظام الانتخابي.. حضور وازن لكلمة الشباب في المؤتمر
كيفية انتخاب الشيخي جاءت في سياق قدرة حركة التوحيد والإصلاح على الانبعاث من جديد وتبني خيارات غير مسبوقة في العالم الدعوي الإسلامي
التداول الذي اهتدت إليه حركة التوحيد والإصلاح يجعل من الصعب لأي كان من داخل الحركة أو خارجها التكهن بنتائج الانتخابات
محمد الحمداوي الرئيس المنتهية ولايته يدعو إلى تشكيل «كتلة الإصلاح الديمقراطي».. تجمع الساعين إلى بناء مجتمع ديمقراطي يقطع مع الاستبداد وتتعاون فيه الإرادات الخيِّرة من كل الاتجاهات
أحمد الريسوني: لقد انتصر الصبر والأناة ونجحت بركة الشورى المخلصة
محمد يتيم: التداول يخضع لضوابط أخلاقية تحظر تناول الجوانب الشخصية التي لا علاقة لها بالمسؤولية التي يجري التداول من أجل اختيار الأرجح لها
شكَّل انتخاب عبدالرحيم الشيخي، المهندس الشاب في الإحصاء والمعلوميات، غير المعروف تقريباً في الساحة الدعوية والسجال الإعلامي والإنتاج الفكري التنظيري، على رأس حركة التوحيد والإصلاح في مؤتمرها الخامس، خلفاً للمهندس محمد الحمداوي، شكَّل الحدثَ الأبرز دعوياً بالمملكة المغربية خلال شهر أغسطس الماضي.
انتخاب شدَّ إليه الأنظار كثيراً على اعتبار أن هذه الحركة تعدُّ من الحركات الإسلامية المعتدلة، أو حسب مؤسسيها والمنتمين إليها أكثرها تبنياً لمنهج الاعتدال والوسطية وابتعاداً عن الغلو والتطرف، إضافة إلى كونها حركة إسلامية مقربة من حزب العدالة والتنمية والذي ساعدت رياح «الربيع العربي» على احتلاله المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الماضية قبل ثلاث سنوات، وسمحت لأمينه العام «عبدالإله بنكيران» بترؤس الحكومة المغربية.
تخمينات واهية
وقبل الانتخابات، تسابق بعض الكتَّاب من خصوم حركة التوحيد والإصلاح، وحزب العدالة والتنمية، بل وخصوم التجربة الحكومية التي تشارك فيها أربعة أحزاب من توجهات مختلفة، إلى الحسم في انتخاب الرئيس الجديد، وبلغة اليقين عينوا الشيخ مولاي عمر بنحماد، نائب الرئيس المنتهية ولايته، والمعروف بتوجهه التقليدي المحافظ رئيساً للحركة، واعتبر هؤلاء أن انعقاد المؤتمر الخامس للحركة ما هو إلا محطة شكلية لتنظيم يدعي الديمقراطية، لكنه غير قادر على قبول قواعد لعبتها، بل ذهب هؤلاء إلى القول: إن المؤتمر سيكون مناسبة لتفتيت الحركة؛ نظراً لاحتدام الصراع بين جناحها «التقليدي» وجناحها «العصري» التواق إلى نزع جلباب الحزب الإسلامي والخروج من سيطرته المتوهمة.
إلى جانب كل تلك التحليلات، ساد نوع من الحيرة بل وعدم التكهن في صفوف المؤتمرين المنتدبين من مختلف جهات المملكة حول اسم الرئيس القادم، طرح اسم د. أحمد الريسوني، الفقيه المقاصدي المجدد، ونائب رئيس اتحاد العلماء المسلمين، بقوة خلال المراحل الأولى من الانتخاب، إلى جانب الشيخ مولاي عمر بنحماد، لكن عبدالرحيم الشيخي حظي بثقة الأغلبية في المؤتمر، محدثاً مفاجأة من العيار الثقيل على الأقل بالنسبة لأولئك الكتبة المعادين وحتى لبعض المنتمين للحركة، في حين شكل انتخابه للبعض الآخر، ولنقل ذلك صراحة، نصف مفاجأة لكون الشيخي كان يشغل منصباً مهماً في المكتب التنفيذي للحركة، منسقاً لمجلس الشورى، إلى جانب شغله منصباً مهماً كمستشار لرئيس الحكومة.
لماذا الشيخي؟
ما هي إذن العوامل الذي أدت إلى بروز اسم الشيخي على رأس حركة إسلامية يفترض أن يقودها، حسب أدبيات الحركات الإسلامية العالمية، شيخ أو فقيه أو خريج معهد ديني؟
نعتقد أن ثلاثة عوامل أدت دوراً كبيراً في انتخاب عبدالرحيم الشيخي رئيساً لحركة استطاعت خلال موجه «الربيع العربي» أن تبدع وتختار نهجاً ثالثاً؛ ألا وهو الإصلاح في ظل الاستقرار، وهذه العوامل هي:
– غياب منطق «الشيخ والمريد» داخل الحركة.
– النظام الانتخابي.
– حضور وازن لكلمة الشباب في المؤتمر.
وقبل توضيح هذه العوامل يجب في البداية أن نذكر أن حركة التوحيد والإصلاح جمعية أسهها جيل من شباب الصحوة الإسلامية قبل حوالي أربعة عقود كانوا حينها في العشرينيات من العمر، وهي نتاج اندماج بين جمعيات في تجربة وحدوية فريدة من نوعها، انتمى عبدالرحيم الشيخي في بدايته الدعوية إلى جمعية الشروق الإسلامية، التي أسسها عبدالرزاق المروري يرحمه الله تعالى، وهي الجمعية التي اندمجت مع جمعيات أخرى تحت اسم رابطة المستقبل الإسلامي، التي توحدت بدورها، صيف عام 1996م مع حركة الإصلاح والتجديد في إطار حركة التوحيد والإصلاح، بقيادة د. أحمد الريسوني.
لن ننشغل كثيراً بالعامل الأول؛ ذلك أن منطق «الشيخ والمريد» في حركة التوحيد والإصلاح حسم فيه منذ نشأتها حتى كانت تسمى الجماعة الإسلامية في بداية الثمانينيات، وعرفت بذلك على الصعيد الوطني والعالمي بين الحركات الإسلامية الدعوية.
أما العامل الثاني؛ فنستطيع القول: إنه على خلاف عدد من الأنظمة الانتخابية خاصة لدى الأحزاب السياسية والهيئات النقابية، والتي تعتمد على أن يرشح كل مرشح نفسه لمنصب ما حسب رؤيته لأحقيته، متخذاً بذلك منهج الحشد والدعم، سلكت حركة التوحيد والإصلاح مسلكاً آخر يعتمد في مجمله على أن «المرء يرشَّح (بفتح الشين)، ولا يرشِّح نفسه»، انطلاقاً من الحديث الشريف: «إن هذا الأمر لا نولّه لمن يطلبه»، أو ما معناه، ويهدف النظام الانتخابي للحركة إلى إعطاء الفرصة لبروز «قيادات محتملة» في الجولة الأولى، وتوفير الفرصة للمؤتمرين لاختيار الأنسب منها في الجولات اللاحقة، حيث لا يعتبر فائزاً إلا من حصل على الأغلبية، وفي الجولة الأولى يعتبر كل المؤتمرين مرشحين مفترضين، يتم التصويت السري، وبعدها يتم الاحتفاظ بالخمسة الأوائل في الجولات المقبلة.
وجب الذكر أن الشيخي احتل المرتبة الخامسة في الجولة الأولى، فكيف أصبح أولاً في نهاية المطاف؟! والجواب على لسان أحد «منافسيه».. يقول د. أحمد الريسوني في هذا الباب، وهو يصف أشغال التداول، وهي عملية تفتح لفترة طويلة من النقاش: كان كثير من القائلين بصرف النظر عن الريسوني، يتجهون إلى د. مولاي عمر، حتى ظهر أن القضية قد حصرت بين الريسوني، وابن حماد، ثم فجأة جاءت بعض المداخلات القوية المتماسكة تلفت الأنظار إلى المرشح الخامس، أو المرشح المستبعد، الأستاذ عبدالرحيم الشيخي، وتسلط الأضواء على مؤهلاته الكثيرة، وتلح على أنه قد جاء وقته، وأنه هو الشخص الأنسب لرئاسة الحركة، وأن أعذاره كلها ميسورة الحل والتجاوز، فسطع نجمه ودخل في دائرة الانتباه.
ويضيف أحمد الريسوني في خاطرة تحت عنوان «لقد انتصر الصبر والأناة ونجحت بركة الشورى المخلصة»: حين كنت أفكر في الرئيس الممكن لحركة التوحيد، كنت أستعرض ممن أستعرضهم عبدالرحيم الشيخي، وكنت أراه مؤهَّلاً، بل عاليَ المؤهلات، ولكني كنت أتجاوزه بسرعة، لاعتقادي أن ترشيحه سيكون بدون جدوى، وأن التصويت له لن يكون إلا ضعيفاً وفاشلاً، لعدم شهرته وقلة وجاهته القيادية، وهما من العناصر البالغة التأثير في الاختيار والتصويت لمنصب الرئيس، لكن هذه المرة تم خرق هذا الجدار، وتم كسر هذه القاعدة غير السليمة.
عبقرية التداول
وعن التداول، يقول محمد يتيم الذي انتخب رئيساً للجماعة الإسلامية (الاسم الأول لحركة الإصلاح والتجديد) عام 1980م: يخضع التداول لضوابط أخلاقية؛ إذ من الممنوع فيها أن يُتناول بعض الجوانب الشخصية التي لا علاقة لها بالمسؤولية التي يجري التداول من أجل اختيار الأرجح لها، وهو تداول يهدف إلى تنوير المؤتمرين، ووضع أكبر قدر من المعطيات حول المرشحين وحول المرحلة وتحدياتها والأنسب إليها، وبيان بعض الموانع التي قد لا يكون الجمع العام أو المؤتمر على علم بها.
وهو تداول يقدم فيه بعض المرشحين ما يرون من موانع تحُول دون تحمل المسؤولية المقترحة، وقد يرجحون فيها غيرهم، ويدعون المؤتمرين إلى صرف النظر عن التصويت لهم.
التداول الذي اهتدت إليه حركة التوحيد والإصلاح إبداع فريد في مجال الممارسة الديمقراطية، وترشيد الاختيار وتحريره من الارتهان للكولسة والمحاور والاستقطاب التنظيمية المسبقة التي تواجه بها المؤتمرات، وتجعل في نهاية المطاف عمليات التصويت والانتخاب مجرد انتخابات صورية وتزكية لقرارات وترتيبات مسبقة جاهزة.
التداول الذي اهتدت إليه حركة التوحيد والإصلاح يجعل من الصعب لأي كان من داخل الحركة أو خارجها التكهن بنتائج العمليات الانتخابية للمسؤولين عن الحركة؛ لأنها في الحقيقة انتخابات ديمقراطية حقيقة، ما فتئت حركة التوحيد والإصلاح تقدم فيها الدرس تلو الآخر.
الحضور الشبابي
لقد اعتمدت حركة التوحيد والإصلاح خلال انتداب المؤتمرين على ضرورة حضور نسبة وازنة من الشباب لا تقل عن 20% شأنها شأن نسبة النساء، لكن الجموع العامة التي انعقدت في مختلف المناطق أفرزت حوالي 37% من الشباب، هذه النسبة كان لها دور حاسم – حسب رأيي – ومن خلال قراءتي للمداخلات خلال مرحلة التداول.
لابد أن نشير إلى أن كيفية انتخاب الشيخي كما وضحناه سابقاً، يأتي في سياق قدرة حركة التوحيد والإصلاح على الانبعاث من جديد، بل إلى قدرته على تبني خيارات غير مسبوقة في العالم الدعوي الإسلامي، منها ما عرفه المؤتمر من «ثورة صغيرة» في نظر البعض بعد انتخاب الأستاذة فاطمة النجار نائباً ثانياً لرئيس الحركة باقتراح من هذا الأخير، وهي من الوجوه الدعوية المعروفة، وزوجة رئيس الحركة بجهة مراكش الدار البيضاء، في الوقت الذي تتهم الحركات الإسلامية عموماً بتحقير المرأة وحصر دورها في البيت وتربية الأولاد.
كتلة الإصلاح الديمقراطي: ويجب ألا ننسى ما حملته كلمة المهندس محمد الحمداوي خلال الجلسة العامة من مفاجآت أخرى، حين تكلم بلسان المفكر اليساري الراحل محمد عابد الجابري الذي دعا قبل 20 عاماً إلى ما يسمى «الكتلة التاريخية بين الإسلاميين والليبراليين واليساريين والعلمانيين والقوميين من أجل تأمين الانتقال الصعب نحو الديمقراطية»، وهو ما وصفه الحمداوي بكتلة الإصلاح الديمقراطي التي تجمع بين كل الساعين إلى بناء مجتمع ديمقراطي يقطع مع الاستبداد، وتتعاون فيه الإرادات الخيِّرة من كل الاتجاهات.
نفس الفكرة أصرَّ على إظهارها الشيخي في أول حوار تلفزيوني مباشر أجرته معه إحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية، حين أكد استعداد حركة التوحيد والإصلاح للتعاون مع الإسلاميين ومع غيرهم في المملكة من أجل مقاومة الفساد وإرساء مبادئ الإصلاح، كما أننا نقرأ في الورقة الإستراتيجية التي صادق عليها المؤتمر أن المنهج القائم على المشاركة والتوافق، لا المغالبة والتصادم، أثبث نجاعته وصموده في وجه جميع التحديات، وقدم إمكانية مغايرة لمآلات «الربيع العربي»، وأبان عن الدور المميز الذي يمكن أن تقوم بت الحركة الإسلامية من خلال قيادة شراكة وطنية تنقل مشروع الإصلاح من قضية جماعة أو حزب أو طرف إلى قضية كل الغيورين وكل الفرقاء الجادين مهما تباينت مشاربهم وأطروحاتهم، أي التعامل مع الإصلاح وقيم الإصلاح وثقافة الإصلاح بوصفها قضية وطن ومشروع أمة، وليست مادة للتنافس السياسي أو الحزبي أو التباين الأيديولوجي أو الصراع الفكري.
ثلاث رسائل قوية
نعتقد أن الشيخي أطلق ثلاث رسائل قوية في أول حوار له؛ أولها: أنه مستمر في تبني منطق الحركة في موضوع التمايز بين الدعوي والسياسي، إذ عبر عن نيته الاستقالة في القريب العاجل من منصبه كمستشار لرئيس الحكومة، وثانيتها: أنه مستعد للتعاون مع الغير كما هو مبين في الورقة الإستراتيجية، وثالثاً: أن مبدأ الإصلاح الديمقراطي بالنسبة له خيار إستراتيجي وليس تكتيكياً.
كثيرون من العلمانيين والحداثيين المتتبعين لحركة التوحيد والإصلاح خاصة وللحركات الإسلامية عامة ينتظرون من الشيخي أن يطبق ما يسمونه «أفكاره الإصلاحية» التي لم تظهر سوى في مناسبات قليلة، ويبدأ حملته في تطهير الحركة مما يسمى «التسلف والتشدد»، والانتقال بها إلى مرحلة إعادة النظر في مواقف سابقة خاصة من مسائل شائكة مثل نظام الإرث الإسلامي وشقه المتعلق بحظ الذكر والأنثى، ومن مسألة الإعدام، وزواج القاصر، فيما ينتظر آخرون أن يحول الشيخي الحركة من جماعة دينية كما يتصورون إلى حركة مدنية، تدافع عن الأخلاق العامة والفردية واللغة العربية والقيم الإسلامية وقضايا الأمة العادلة، وتشتغل مثل جماعة ضغط على الحكومات والبرلمان والمؤسسات لدفعها إلى تبني مطالبها دون أن تمارس هي السياسة مباشرة.
فيما يطالب البعض الآخر من الشيخي ومساعديه في المكتب التنفيذي السير قدماً في نهج الحركة الإبداعي لحلول واقعية تتناسب مع التغيرات التي يعرفها المجتمع المغربي، وأيضاً ما يعرفه العمل الإسلامي من تحديات كبرى في المنطقة العربية بظهور تيارات متشددة، كما يطالب هؤلاء خاصة المصوتين على الشيخي والمنتمين للحركة أن على هذا الأخير أن يرمم البناء التنظيمي للحركة في شقه التربوي والتكويني الذي يبدو أن بعض عيوبه بدأت في الظهور للعيان، واستكمال المخطط الإستراتيجي للأربع سنوات المقبلة المتمثل في التعاون على ترشيد التدين في المجتمع والتشارك في ترسيخ قيم الإصلاح كما ذكر سالفاً، وتقوية جهود التجديد الفكري والاجتهاد الشرعي لخدمة الإصلاح.>