خيانة «أبو رغال» الذي تطوع ليكون دليلاً لجيش أبرهة لهدم الكعبة.. أول الخيانات العربية
خيانة «أبو رغال» الذي تطوع ليكون دليلاً لجيش أبرهة لهدم الكعبة.. أول الخيانات العربية
بعد ظهور الإسلام وقيام دولته في «المدينة المنورة» سجل التاريخ العديد من الخيانات من اليهود والمنافقين
في «غزوة الخندق» ظهرت خيانة يهود خيبر وبني النضير..
والمنافقون الذين أشاعوا الهزيمة النفسية
عندما زحف الصليبيون على المشرق العربي واقتحموا القدس (عام492هـ/1099م) ظهرت قرون الخيانة في صفوف قطاعات من المسيحيين الشرقيين
في الحرب «الإسرائيلية» الأخيرة على غزة، فوجئ الكثيرون باصطفاف عدد من الأنظمة العربية والكتَّاب العرب مع «إسرائيل» ضد المقاومة الفلسطينية! الأمر الذي استدعى وصف هؤلاء ولأول مرة في أدبنا السياسي بـ«الصهاينة العرب»، فغدت لدينا – ولأول مرة – «صهيونية عربية» تقارب «الصهيونية المسيحية» التي نشأت في صفوف البروتستانتية الغربية، والتي مارست دوراً سياسياً ودينياً كبيراً في إقامة ودعم الكيان الصهيوني على أرض فلسطين.
لقد فوجئ الكثيرون ودهشوا من موقف هؤلاء «الصهاينة العرب» الشاذ والغريب، إلى الحد الذي كادت فيه الدهشة أن تحجب الوعي بهذه الظاهرة الشاذة! وهو الوعي الذي يثبت الحقيقة التي تقول: إنه كما أن للبطولات الوطنية وللجهاد والمجاهدين جذوراً وتاريخاً، فإن للخيانات – كذلك – جذوراً وتواريخ!
ولعل أقدم الخيانات التي سجلها التاريخ العربي كانت تلك التي اقترفها «أبورغال: قسي بن منبه بن النبيت بن يقدم» (نحو 50ق.هـ ـ 575م) من أهل الطائف، في ديار ثقيف، فإبان زحف جيش «أبرهة الحبشي» (53ق.هـ ـ 571م) على مكة لهدم الكعبة، وقطع الطريق على النهوض العربي الذي أطل زمانه، وفي ظل إجماع عربي ضد غزوة الفيل، التي كانت تتعرض أثناء سيرها من اليمن إلى مكة لإغارات القبائل العربية، زينت الخيانة لـ«أبي رغال» الخروج على الإجماع العربي، فتطوع ليكون دليلاً لجيش الأعداء، يقودهم إلى احتلال مكة وهدم بيت الله الحرام.
ولقد ظلت الذاكرة العربية واعية ببشاعة هذه الخيانة، حتى إن قبر «أبي رغال» هذا بين مكة والطائف يرميه المارة بالحجارة منذ ما قبل الإسلام، وحتى هذه اللحظات، كما يرمي المسلمون الشيطان بالجمرات في موسم الحج من كل عام!
ولقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم بقبر «أبي رغال» هذا، فرجمه وأمر برجمه، فأصبح ذلك سُنة، سجلها الشعراء العرب في قول «جرير» (28 – 110هـ/ 640 – 728م):
إذا مات الفرزدق فارجموه
كما ترمون قبر أبي رغال
وقبل جرير والفرزدق (29 – 110هـ/ 640 – 728م) هجا شاعر النبوة حسان بن ثابت (54هـ/ 674م) ثقيف – قبل الإسلام – فقال:
إذا الثقفي فاخركم فقولوا:
هلم نعد شأن أبي رغال
ولقد هدد عمر بن الخطاب الشاعر الثقفي غيلان بن سلمة (23هـ/ 644م) فقال له: «لئن لم ترجع عن مالك لأرجمن قبرك كما يرجم قبر أبي رغال»(1).
وبعد ظهور الإسلام، وقيام دولته في المدينة المنورة، سجل التاريخ العديد من الخيانات:
فيهود خيبر الذين عاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على أن يكونوا جزءاً من أمة السياسة ورعية الدولة، يحمون المدينة مع المؤمنين، ويحاربون معاً ويسالمون معاً، إذ بهم يخونون العهد، بل ويخونون التوحيد الذي يؤمنون به، ويذهبون إلى مشركي قريش، يحرِّضونهم على قتال المسلمين، ويتعهدون لهم بتمويل هذه الحرب، ويقولون للمشركين: «إنا سنكون معكم حتى نستأصل محمداً» والذين آمنوا معه! بل ويقولون لعبَدَة الأوثان: «إن دينكم خير من دين محمد، فأنتم أولى بالحق منه»!
يهود خيبر
وفي «غزوة الخندق» (ذي الحجة سنة 5هـ)، التي اجتمعت فيها قوى الشرك على إبادة المسلمين ودولتهم، تعهد يهود خيبر لمشركي غطفان بثمار سنة كاملة من مزارعهم وحدائقهم لقاء اشتراكهم مع قريش في غزو المدينة المنورة! وشارك بعض زعماء يهود خيبر وبني النضير في هذه الحرب، ونقض زعيم يهود بني قريظة كعب بن أسد عهده مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وفتح للمشركين ثغرة في الحصار، عندما بلغ الحصار الذروة، وزاغت الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر، وابتُلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً.
وعلى درب هذه الخيانات، سار المنافقون من أهل المدينة الذين مردوا على النفاق؛ فأشاعوا الهزيمة النفسية إبان الحصار، وخذَّلوا عن الإسهام في الدفاع عن المدينة، قائلين – كذباً – {إنَّ بٍيٍوتّنّا عّوًرّةِ} (الأحزاب:13)! ثم كشفوا عن وجه الخيانة، سافراً فقالوا: { لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} (المنافقون:8)، مهددين بتقويض الدولة الإسلامية، وإجلاء المؤمنين عن وطنهم.
وعندما زحف الصليبيون على المشرق العربي واقتحموا القدس (492هـ/ 1099م) وذبحوا وأحرقوا وأغرقوا سبعين ألفاً من أهل المدينة المقدسة، وحوَّلوا المسجد الأقصى إلى كنيس لاتيني وإسطبل للخيل ومخزن للسلاح! ظهرت قرون الخيانة في صفوف قطاعات من المسيحيين الشرقيين، فنقضوا عهدهم مع الأمة والدولة، وشاركوا الصليبيين في الأفراح، وسجل هذه الخيانة مؤرخ الحرب الصليبية «مكسيموس مونروند» في كتابه «تاريخ الحروب المقدسة في الشرق والمدعوة حرب الصليب»، فقال: «إن أخبار الانتصارات التي فاز بها الصليبيون قد انتشرت بسرعة في الجهات القريبة إلى القدس، فجاء المسيحيون متقاطرين جموعاً غفيرة إلى أورشليم، من أنطاكية ومن الرها ومن ترسوس ومن كياروكيا ومن ليكيا ومن بين النهرين ومن سائر أقاليم سورية، والجميع حاصلون على فرح عام، يقدمون الشكر لله، والثناء على شجاعة الصليبيين وانتصاراتهم كجنود ليسوع المسيح، الذين أنقذوا قبر ابن الله، مخلص العالم من يدي غير المؤمنين، (أي المسلمين)(2).
تحالف شاور مع الفرنجة
وإبان الصراع الطويل بين دول الفروسية الإسلامية وبين الكيانات الصليبية، تحالفت قطاعات من الدولة الفاطمية مع الصليبيين ضد الجيوش الإسلامية، التي قادها أسد الدين شيركوه (564هـ/ 1169م)، وصلاح الدين الأيوبي (532 – 589هـ/ 1137 – 1193م) والتي جاءت لرفع التهديد الصليبي عن مصر والقاهرة، فتحالف الوزير الفاطمي «شاور» (564هـ/ 1169م) مع الفرنجة الصليبيين الذين سماهم «الفرج»! وعقد معهم معاهدة دفعت بموجبها مصر الجزية للجيوش الصليبية، التي عسكرت حامية منها على أبواب القاهرة، وبيدها مفاتيح أبواب العاصمة!
وإبان سقوط الدولة الفاطمية التي مكن ضعفها للغزوة الصليبية، وإعداد صلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس وفلسطين من الصليبيين، تحالف أركان هذه الدولة الفاطمية المنهارة مرة أخرى مع الصليبيين ضد صلاح الدين الأيوبي، وضبط صلاح الدين المراسلات بين جوهر الخصي، مؤتمن الخلافة الفاطمية، وبين الصليبيين؛ فحاكمه، وأعدمه سنة 564هـ/ 1169م وهزم جنده ومؤيديه.
وعندما انحاز سلطان دمشق الصالح إسماعيل (635 – 635هـ/ 1180 – 1238م)، وأباح للصليبيين شراء السلاح من أسواق دمشق، غضب سلطان العلماء العز بن عبدالسلام (577 – 660هـ/ 1181 – 1262م) لهذه الخيانات، ولما سأل تجار السلاح بدمشق: هل تبيعون السلاح للصليبيين؟ وليس لهم مورد غير تجارة السلاح، صعد العز منبر الجامع الأموي يوم الجمعة، وأفتى بتحريم بيع السلاح للأعداء، ولم يدعُ للسلطان يومها، كما هي العادة، بل دعا عليه في عبارة واضحة قال فيها: «اللهم أبرم لهذه الأمة إبرام رشد، يعز فيه أولياؤك، ويذل فيه أعداؤك، ويعمل فيها بطاعتك وينهى فيه عن معصيتك»، والمصلون – بمن فيهم تجار السلاح – يهدرون خلف سلطان العلماء بقولهم: آمين(3)!
ولم يأبه العز بن عبدالسلام بعزل السلطان له عن الخطابة؛ فاعتقله السلطان، واعتقل معه الفقيه المالكي أبو عمر بن الحاجب (647هـ/ 1249م)، ثم أفرج عن العز وحددت إقامته ببيته، ومنعه من لقاء أحد سوى الطبيب والحلاق، ومن الخروج إلا لصلاة الجمعة أو الحمام؛ فقرر الرحيل مع ابن الحاجب إلى مصر، واعتقله السلطان ثانية بالقدس، وظل معتقلاً فيها حتى حرره جيش الملك الكامل، وهو زاحف لتحرير دمشق والشام من حكم الخيانة – الممالئ للصليبيين – فذهب العز إلى مصر، وعاش آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، محرضاً على قتال الصليبيين والتتار في ظل حكم الأيوبيين والمماليك، وتوَّجه التاريخ الإسلامي سلطاناً للعلماء، بينما هبت الخيانة ورموزها إلى مزبلة التاريخ!
وفي عام 656هـ/ 1256م أدت خيانة الوزير ابن العلقمي (593 – 656هـ/ 1197 – 1258م) وشيعته الدور الأكبر في تمكين التتار من دمار بغداد والمشرق الإسلامي والعربي، على النحو الذي ذهب مثلاً في تاريخ الإبادة والدماء، فسقطت الخلافة العباسية، ودمرت الكنوز الفكرية والحضارية ببغداد، وقتل من أهلها أكثر من ثمانمائة ألف – بمن فيهم الخليفة وأركان دولته – حتى وصف ابن كثير (701 – 774هـ/ 1302 – 1273م) حال الناس الذين نجوا من المذبحة وخرجوا من الأقبية «كأنهم الموتى؛ إذ نبشوا قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً؛ فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا ولحقوا بمن سبقهم من القتلى»(4)!
وفي ظل الاحتلال التتري لدمشق عام 658هـ/ 1260م، دفعت الخيانة قطاعات من النصارى للانحياز إلى التتار، ووصف المقريزي (766 – 845هـ/ 1365 – 1241م) هذه الخيانة فقال: «لقد استطال النصارى بدمشق على المسلمين، وأحضروا فرماناً من هولاكو بالاعتناء بأمرهم، وإقامة دينهم، فتظاهروا بالخمر في نهار رمضان، ورشوه على ثياب المسلمين في الطرقات، وصبوه على أبواب المساجد، وألزموا أرباب الحوانيت القيام إذا مروا بالصليب عليهم، وأهانوا من امتنع من القيام للصليب، وصاروا يهتفون في الشوارع: «ظهر الدين الصحيح دين المسيح»، وخربوا مساجد ومآذن كانت بجوار كنائسهم»(5).
الأمر الذي أحدث رد فعل عنيف معادٍ لهم بعد هزيمة التتار في عين جالوت (658هـ/ 1261م).
وبعد إسقاط غرناطة بالأندلس (897هـ/ 1493م)، انطلقت غزوة صليبية جديدة، قادها البرتغالي «فاسكو دي جاما» (1469 – 1524م) رافعة شعار: «التوابل والمسيح»؛ أي ثروات الشرق وتجارته الدولية، وتنصير المسلمين!
وكانت الدولة العثمانية قد شرعت في الزحف على البلقان ووسط أوروبا؛ لتخفيف الضغط على المسلمين في غربي أوروبا، فخرجت الدولة الصفوية الفارسية، بقيادة الشاة «إسماعيل الصفوي» (907 – 930هـ/ 1502م – 1524م) عن الولاء للأمة، وتحالفت مع الصليبيين البرتغاليين، فغزت العراق والحدود الشرقية للدولة العثمانية؛ الأمر الذي اضطر الجيوش العثمانية إلى الانسحاب من أسوار فيينا (935هـ/1529م)، وتكررت هذه الخيانة الصفوية على عهد الشاه الصفوي «نار شاه» (1148 – 1160هـ/ 1736 – 1747م)؛ الأمر الذي اضطر الجيوش العثمانية إلى الانسحاب مرة ثانية من على أسوار فيينا (1049هـ/ 1669م)!
ولقد مارست الأقلية الأرمنية أدواراً مهمة في إقامة الحلف غير المقدس بين الغرب الصليبي وبين الصفويين ضد العثمانيين؛ فشاركت إنجلترا في تطوير المدافع الصفوية، وتم إنقاذ أوروبا بفضل هذه الخيانات من الفتح العثماني، حتى لقد كتب أحد المستشرقين البلجيك فقال: «إنه لولا الصفويون لكنا نقرأ القرآن في بلجيكا»!
وفي العصر الحديث، أعلن «بونابرت» (1769 – 1821م) وهو في طريقه من مرسيليا إلى الإسكندرية لغزو مصر والشرق (1213هـ/ 1798م) أنه سيجند عشرين ألفاً من أبناء الأقليات المسيحية ليكونوا أعواناً له على بناء إمبراطوريته الاستعمارية.
أرثوذكس في شراك الخيانة
ولقد نجحت الحملة الفرنسية في إيقاع قطاعات من الأقباط الأرثوذكس في شراك الخيانة، فألَّف المعلم «يعقوب حنا» (1745 – 1800م) الذي يسميه الجبرتي (1167 – 1237هـ/ 1754 – 1822م) «يعقوب اللعين»، ألَّف «فيلقاً قبطياً» ضم ألفين من شباب الأقباط، تزيُّوا بزي الجيش الفرنسي، وشاركوا جيش الاحتلال في غزو المدن والقرى، وفي قهر المصريين وسجن شيوخ الأزهر الشريف، وتعذيب القيادات الوطنية، حتى بلغ الأمر إلى أن عهد الجنرال «كليبر» (1753هـ/ 1800م) الذي خلف «بونابرت» في قيادة الحملة إلى المعلم يعقوب، كما يقول الجبرتي: «أن يفعل بالمسلمين ما يشاء، فتطاول النصارى من القبط ونصارى الشوام على المسلمين بالسب والضرب، ونالوا منهم أغراضهم، وأظهروا حقدهم، ولم يبقوا للصلح مكاناً، كما صرحوا بانقضاء ملة المسلمين وأيام الموحدين»(6)!
ويصف الجبرتي استفزاز النصارى واليهود المسلمين تحت حماية حراب الفرنسيين، فيقول: «فترفع أسافل النصارى من القبط والشوام والأروام واليهود؛ فركبوا الخيول، وتقلدوا السيوف بسبب خدمتهم للفرنسيس، ومشوا بالخيل، وتلفظوا بفاحش القول، واستذلوا المسلمين مع عدم اعتبارهم للدين، إلى غير ذلك مما لا يحيط به الحساب، ولا يسطر في كتاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»(7)!
احتفاء النصارى بـ«بونابرت»
بل لقد احتفلوا بانتصارات «بونابرت» على أهل غزة (1213هـ/ 1799م)، وكما يقول الجبرتي: «فأظهر النصارى الفرح والسرور، في الأسواق والدور، وأولموا في بيوتهم الولايم، وغيَّروا الملابس والعمايم، وتجمعوا للهو والخلاعة وزادوا في الشناعة»(8)!
وفي ذكرى قرنين على هذه الحملة الفرنسية التي قتلت «سُبع» الشعب المصري (300 ألف) من شعب كان تعداده أقل من ثلاثة ملايين آنذاك، عام 1997م احتفل أحفاد «بونابرت» من الحداثيين والفرنكفونيين وسواقط العلمانيين المصريين مع فرنسا عامين كاملين بذكرى هذه الغزوة، احتفلوا بالاحتلال بدلاً من الاحتفال بالاستقلال.
هكذا رصدت الذاكرة التاريخية هذه النتوءات الشاذة لهذه الخيانات عبر مراحل التاريخ، مؤكدة النهايات البائسة لأصحاب هذه الخيانات، كسُنة من سنن التاريخ التي لا تبديل لها ولا تحويل.
فـ«أبو رغال» – الجد الأعلى للصهاينة العرب – قد هلك مع هلالك جيش أبرهة، ولا يزال قبره يُرجم حتى اليوم، وسيظل كذلك؛ إعلاناً عن مصير الخيانات والخونة في كل زمان ومكان، بينما ظلت مكة وبيت الله الحرام مركز إشعاع للدين الإلهي الذي شملت أنواره العالمين.
ويهود خيبر وبني قريظة وبني النضير، هزموا شر هزيمة مع مشركي قريش، وتم تطهير شبه الجزيرة العربية من رجسهم، إعلاناً عن انتصار الإسلام وأمته وحضارته، وخرجت الجيوش الإسلامية لتطهر الشرق من القهر الحضاري الذي صنعه الرومان والفرس بشعوب الشرق لأكثر من عشرة قرون.
ولم يبق من نفاق المنافقين – الذين مردوا على النفاق – إلا مكانهم في الدرك الأسفل من النار.
هزيمة الخونة
ولقد حاقت الهزيمة بالخونة الذين انحازوا للصليبيين والتتار، فأحفاد الصليبيين يشكون اليوم من أن الإسلام يفتح أوروبا فتحاً جديداً، ويتمدد في الفراغ الديني الذي صنعته الكنائس التي سبق وشنت حروبها الصليبية على الشرق الإسلامي.. أما التتار، فلقد دخلوا في الإسلام، وتحولوا – كأهل سُنة – إلى شوكة في جنب أعداء الإسلام، بعد أن أرادت الخيانة لهم أن يكونوا شوكة في جنب أهل السنة والجماعة!
ولقد لقي الخونة من نصارى دمشق – الذين استنصروا بالتتار – عقابهم على خيانتهم، على يدي السلطان قطز (658هـ/ 1260م) عقب انتصاره في «عين جالوت».
وانتصرت الدولة العثمانية، وحمت الشرق من غزو الصليبيين البرتغاليين، وقامت سداً منيعاً أخَّر الغزو الغربي للشرق عدة قرون، كما أقامت في أوروبا دولاً إسلامية وأقليات إسلامية، بينما ذهب الذين خانوها إلى مزبلة التاريخ!
وعقب كل خيانة من هذه الخيانات، التي مثلت بقعاً سوداء في صفحات التاريخ، كانت الأمة تنهض فتستأنف مسيرتها الحضارية، معلنة مضاء سُنة الله في سير التاريخ: { فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ “17”} (الرعد).
وهي ذات السُّنة التي نراها الآن على أرض فلسطين، عندما تبهر انتصارات المقاومة وصلابتها حتى الكثيرين من أعدائها، وعندما يجلل الخزي والعار «الصهاينة العرب» الذين سقطوا في شراك العنصرية الصهيونية التي مثَّلت وتمثل صفحة سوداء في الواقع الذي نعيش فيه.
إن الكيان الصهيوني لم يبلغ ما بلغته الكيانات الصليبية في العمر والاتساع، وإن المصير الذي انتهت إليه هذه الكيانات الصليبية، مع الخيانات التي انحازت إليها، هو نفس مصير هذا الكيان، مع الصهاينة العرب، الذين أيدوه وانحازوا إليه ضد المقاومة الباسلة على أرض فلسطين.
إنها سُنة الله في سيم التاريخ، عبر الزمان والمكان.
الهوامش:
(1) الزركلي، خير الدين «الأعلام»، طبعة بيروت.
(2) «تاريخ الحروب المقدسة في الشرق المدعوة حرب الصليب»، المجلد الأول، ص 180، 181، ترجمة: مكسيموس مظلوم، طبعة أورشليم سنة 1865م.
(3) السبكي، «طبقات الشافعية الكبرى»، ج 5، ص 100، 101، طبعة القاهرة الأولى.
(4) «تهذيب البداية والنهاية»، ج4، ص 305، 307، طبعة دار الفكر العربي، القاهرة سنة 2006م.
(5) «كتاب السلوك لمعرفة دولة الملوك»، ج 1، ق 2، ص 422، 432، تحقيق: د. محمد مصطفى زيادة، طبعة القاهرة سنة 1956م.
(6) «عجائب الآثار في التراجم والأخبار»، ج 5، ص 134، 136، طبعة القاهرة سنة 1965م.
(7) «مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس»، ص 112، طبعة القاهرة سنة 1969م.
(8) المصدر السابق، ص 177.