قبل الخوض في بحر التحليل، أريد أن أنوه أن البعض من المفكرين والقيادات في التيارات الإسلامية اعتادت على مبدأ حسن الظن والتأويل الحسن للأحداث، حتى إنها بدأت تنسج القصص الجميلة للخلافات داخل الصف الإسلامي خاصة في تركيا، حتى إن بعضهم بدأ يبني تحليلاته، و
قبل الخوض في بحر التحليل، أريد أن أنوه أن البعض من المفكرين والقيادات في التيارات الإسلامية اعتادت على مبدأ حسن الظن والتأويل الحسن للأحداث، حتى إنها بدأت تنسج القصص الجميلة للخلافات داخل الصف الإسلامي خاصة في تركيا، حتى إن بعضهم بدأ يبني تحليلاته، ويستشرف المستقبل بناء على هذه الآراء التي هي أمنيات لا تحليلات.. وأذكر على سبيل المثال لا الحصر، الخلاف الذي عاشته الحركة الإسلامية التركية يوم انشق “رجب طيب أردوغان” وزملاؤه عن شيخهم “نجم الدين أربكان” رحمه الله، خرج علينا البعض ومنهم كتَّاب في صحف مرموقة ليقولوا: إن هذا الخلاف هو تكتيك متفق عليه بين الرجلين ليتجنبوا القضاء عليهم من قبل الجيش والدولة التركية العميقة، وبنى على ذلك أحد المحللين أن حزب “السعادة” هو حزب نخبة الحركة الإسلامية، و”العدالة والتنمية” هو حزب العوام من الشعب التركي المحافظ، وحلل مع الأسف نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة على هذا الأساس، والحقيقة لا علاقة لها بهذا الأمر لا من قريب ولا من بعيد، إنما كان الخلاف على المنهج والأسلوب، وانتهج “أردوغان” وزملاؤه منهجاً مختلفاً، وكان على ما يبدو حتى اللحظة أنجح بكثير من منهج وأسلوب شيخهم.
وفيما يتعلق بموضوعنا، يبدو أن البعض أيضاً لا يتقبل نفسياً أن يرى الخلاف أو لنقل الاختلاف يدب بين شخصيتين من قيادات التيار التركي المحافظ المحسوبين على الإسلاميين، فيريدون تأويل الأمر على أنه تبادل أدوار، أو ينكرون أصلاً وجود الخلاف، رغم أن الخلاف موجود وواضح للمتابعين وحتى المهتمين فقط بالشأن التركي ومنذ أكثر من سنة ونصف السنة، حتى إن البعض يعيده ليوم التمديد لـ”عبدالله غول” في رئاسة الجمهورية عاماً بعد الاستفتاء عام 2010م، حيث قيل حينها: إن “أردوغان” يريد أن ينهي “غول” مرحلة رئاسته بناء على المادة الجديدة التي حددت منصبه بخمس سنين، وليس حسب المادة القديمة التي انتخب عليها والتي تنص على أن مدة رئاسته سبع سنين.
ولكن هذه المشكلات ظهرت على السطح بوضوح مع أحداث “التقسيم” في يونيو عام 2012م، حيث كان لـ”غول” موقف شبه محايد، بل وانتقد الأداء الحكومي في مرحلة اعتبرتها الحكومة وحزب “العدالة والتنمية” أنها مؤامرة على تركيا تقودها قوى دولية، وبتساوق محلي من قوى المعارضة و”جماعة غولن”، وبرزت تصريحات لـ”أردوغان” تنتقد تصريحات “غول” التي قال فيها: إنه مع حرية الشباب بالتعبير عن آرائهم، وإن الديمقراطية لا تعني الصناديق فقط.
ثم برز هذا الخلاف مرة أخرى في موضوع المواجهة بين الحزب و”جماعة فتح الله غولن”، أو ما تسميه الحكومة “التنظيم الموازي” في الدولة، حيث قال “غول” في أول المشكلة حين ظهر في الإعلام: إن “التنظيم الموازي” قد تنصت على هواتف واتصالات معظم أركان الدولة، وصرح “أردوغان” أن “غول” كان من ضمن من تم التنصت عليه، كان رد فعل “غول” باهتاً، واعتبره بعض أعضاء الحزب طعنة في الخاصرة لهم، حيث قال مستهيناً بالأمر: لا أستطيع أن أؤكد ما ورد على لسان “أردوغان”، ولكن حتى لو كان فليس لدي ما أخاف عليه حتى أخشى التنصت مما أعتبر لمزاً في “أردوغان” الذي طالته وأسرته وبناته الاتهامات بالفساد والإهانات في حينها، والأهم من هذا اعتبروه محاولة من “غول” لتبرئة ساحة “جماعة جولن”، ومحاولة حمايتهم من الحراك الحكومي ضدهم في المحافل الحكومية.
وقد برز الرفض لعودة “غول” في صفوف الحزب واضحاً وجلياً في انتخاب رئيس الحزب ورئيس الوزراء الجديد “أحمد داود أوغلو”، حيث إن “غول” صرح قبل حوالي أسبوعين أنه يرغب في العودة لصفوف الحزب والعمل ضمنه، وهو الحزب الذي شارك في تأسيسه، فكان الرد مباشرة من “أردوغان” أن الحزب والحكومة يجب أن يقودهما رأس واحد وإلا سيفشلا، ومن المعروف أن القانون التركي يشترط في رئيس الوزراء أن يكون من البرلمان، وبهذا قطع الطريق على عودة “غول” لرئاسة الحزب على الأقل دون رئاسة الوزراء كونه ليس عضواً في البرلمان.
وهذا الموقف قد لا يكون موقف “أردوغان” وحده، بل موقف الكثير من القيادات السياسية في الحزب وخاصة الشباب، حيث يشعرون أن المرحلة القادمة هي مرحلة كسر عظم كما يقولون مع “التنظيم الموازي” الذي يعتبرونه تهديداً لمشروعهم.. مشروع تركيا الجديدة، وهذا الأمر يتطلب شخصية حازمة وغير مترددة، ولا ترتبط بعلاقات مودة مع الجماعة، ولا ترى في التصالح معهم مخرجاً من هذه الأزمة، وهي الشروط التي قد لا تنطبق على “عبدالله غول”، وأكد ذلك موقف زوجته التي وخلال حفل أقامه “غول” ليودع فيه الإعلاميين ومسؤولي منظمات المجتمع المدني، حيث رفضت مصافحة بعض الإعلاميين المعروفين بقربهم الشديد من “أردوغان”، واتهمتهم بأنهم يقودون حملة ضدهما (هي وزوجها)، بل قالت: إن ما لاقيناه من هجوم يزيد على ما لاقيناه في 28 فبراير؛ قاصدة فترة الانقلاب العسكري الذي أطاح بـ”نجم الدين أربكان”، وكان حينها “غول” من قيادات الحزب، رغم أن هذا التشبيه غير صحيح، حيث إنها وحتى وهي زوجة رئيس جمهورية رفض عدد من الضباط في الجيش الجلوس في مكان تواجدها، وكذلك منعوها من دخول المستشفى العسكري؛ كونها محجبة، بينما في هذه الفترة كل ما تعرضت له عائلة “غول” هو انتقادات سياسية لمواقفه من السياسية من أحداث مفصلية كادت أن تغير وجه تركيا السياسي وتعيدها عشرين عاماً إلى الوراء.
هذا الأمر لا يحدث في الحركة الإسلامية في تركيا أو غيرها من البلاد للمرة الأولى، ولن يكون الأخيرة، فبعض القيادات المؤسسة لحزب “العدالة والتنمية” انسحبت منه، وأنشأت أحزاباً منافسه بل وحاربته، ولكنهم فشلوا، وبعضهم انسحب بصمت دون ضجيج، فالإسلاميون بشر يختلفون يصيبون ويخطئون، وقد ينافسون بعضهم بعضاً، بل وبطريقة شديدة ومؤذية، فلا تصنعوا منهم أصناماً تتباكون على سقوطها في لحظة انكشاف الحقيقة، أو تضطرون لطرح أفكار أو حكايات هي من نسج خيالكم ظناً منكم أنها الحقيقة؛ لأن مثل هذه الأمور تكون مردوداتها التربوية والشعبية السلبية أكبر من أن لو تم الحديث عنها بشكل طبيعي، وأعتقد أن “عبدالله غول” قد لا يفضل العودة للحزب ما لم يشعر برغبة قوية داخل أروقة الحزب في ذلك، ولكنه قد يفضل الجلوس في بيته يكتب مذكراته ويعطي محاضرات حول تجربته وتجربة تركيا كما يفعل الرؤساء الكبار في العالم.