أسفرت الانتخابات المحلية في مقاطعة كاتالونيا يوم الأحد الماضي عن فوز ساحق للانفصاليين.. هذه المقاطعة الواقعة في شمال شرق إسبانيا، لم تكن في يوم دولة ذات سيادة، ولكنها تشهد منذ عقود تنامياً مطرداً للنزعة الانفصالية.
ظهر التيار الانفصالي في البداية كحراك معارض للملكية، وقد نجح في تكوين حكومة كاتالونية تسمى “الجينيراليتا” في سنة 1932م، ولكن هذه الحكومة تعرضت للإقصاء في عهد الجنرال فرنكو، ولم يعد تشكيلها إلا سنة 1977م، ولم تتم المصادقة عليها من قبل برلمان كاتالونيا إلا في سنة 2005م، في إطار المساعي للظفر بالحكم الذاتي.
ولكن المساندين للنزعة القومية الكاتالونية ظلوا يشكلون أقلية إلى حدود سنة 2010م، وفي تلك السنة قامت المحكمة الدستورية في العاصمة مدريد برفض مقترح قانون يسمح بتوسيع نطاق الحكم الذاتي لمقاطعة كاتالونيا، ويعترف بـ”الأمة الكاتالونية”، ورداً على القرار، خرج أكثر من مليون متظاهر للاحتجاج في مدينة برشلونة، وهو عدد كبير بالنظر للعدد الإجمالي لسكان المقاطعة البالغ 7.5 مليون، ومنذ تلك الفترة، انتقلت النزعة الانفصالية إلى مستويات جديدة، وأصبح العيد الوطني الكاتالوني “لا ديادا” يجمع أكثر من مليون شخص كل عام، رغم تشكيك الحكومة المركزية في مدريد في هذه الأرقام.
ماذا تمثل كاتالونيا بالنسبة لإسبانيا؟
كاتالونيا هي واحدة من أقوى وأثرى الجهات في إسبانيا، حيث يعيش فيها 16% من الإسبان، وتنتج 20% من الثروة الوطنية، كما أن ربع الصادرات الإسبانية في سنة 2014م انطلقت من كاتالونيا.
وبوجود مدينة برشلونة الساحلية، تمتلك مقاطعة كاتالونيا واحداً من أكبر الموانئ التجارية في البحر الأبيض المتوسط، وأربعة مطارات دولية، ومنشآت ضخمة للصناعات الدوائية، كما أنها تحتضن مقرات أكبر الشركات المتعددة الجنسيات في العالم، مثل عملاق صناعة النسيج “إنديجو”.
أما على المستوى السياسي والإداري، فإن كاتالونيا على غرار بقية المقاطعات الذاتية الحكم، مثل أندلوسيا والكناري وجاليسيا، يوجد فيها برلمان وحكومة، وهي تهتم بشكل خاص بالصحة والتعليم والخدمات الاجتماعية، ولديها جهاز شرطة خاص بها.
أما بالنسبة للجذور الثقافية، فتمتلك كاتالونيا لغتها الخاصة بها، وهي اللغة “الكاتالونية”، ولكن اللغة السائدة هي اللغة الإسبانية الرسمية “الكاستيلانية”، كما تمتلك كاتالونيا نشيداً يسمى “البناؤون”، وعلماً مخططاً بالأحمر والأصفر الذهبي.
ما مطالب الانفصاليين؟
تعاني مقاطعة كاتالونيا من نسبة تداين تقارب مستوى ثلث ناتجها السنوي الخام، ولكن يعتبر أبناء هذه الجهة أن الوضع ما كان ليصبح بهذا السوء لو تم تعديل نظام ضبط الموازنات في إسبانيا، الذي يقضي بتقديم دعم إضافي للمقاطعات الفقيرة على حساب تلك الأكثر غنى.
وتتصرف كاتالونيا اليوم في حوالي نصف عائدات الضرائب، وتتسلم الحكومة المركزية النصف الآخر، ويطمح الانفصاليون إلى وضع نظام جديد تم إقراره في السابق في إقليم الباسك، يقضي بجمع كاتالونيا لكل أموال الضرائب، ثم تقديم نسبة منها للحكومة المركزية في مقابل الخدمات التي قدمتها الحكومة لسكان هذه المقاطعة، مع مساهمة بسيطة في “برنامج التضامن الوطني” لمساعدة المقاطعات الأقل غنى.
وبالإضافة للمطالب الجبائية، يطرح الانفصاليون مطالب ثقافية، حيث يعارضون القانون الذي صدر في سنة 2012م والذي يفرض استعمال اللغة “الكاستيلانية” في المدارس، بعد أن طالب حينها وزير التربية خوزي إجناسيو ويرت بفرض الهوية الإسبانية على شباب كاتالونيا، وهو ما أثار حفيظة السكان وأحيا مخاوفهم من تكرر المأساة التي عاشوها إبان سيطرة قوات الجنرال فرنكو على المنطقة خلال الحرب الأهلية، وقمعه للهوية الكاتالونية.
الأمور أكثر تعقيداً مما تبدو عليه
في خضم هذا المسار السياسي، تظهر عدة عوائق في طريق مساعي الكاتالونيين للتحرر، إذ يعتبر الكثيرون أن إعلان كاتالونيا لانفصالها مخالف للدستور الإسباني، لأنه يتعارض مع الفصل الثاني الذي ينص على وحدة الدولة والحق في الحكم الذاتي، والذي يقر بحق المقاطعات في تسيير شؤونها بنفسها، ولكن يمنع بشكل قاطع انفصالها.
وقد أقرت المحكمة الدستورية الإسبانية حق الكاتالونيين في تقرير مصيرهم وتحقيق تطلعاتهم السياسية، ولكن ذلك يصطدم بعقبات تشريعية مهمة، تستوجب إجراء تنقيحات دستورية، وإلى أن يتحقق ذلك، تبقى أحلام الكاتالونيين غير قانونية وغير دستورية في نظر القانون، رغم إصرار أرتور ماس، الرئيس الانفصالي للمقاطعة، على تحقيق هذه الأحلام.
كما أن مسألة اندماج كاتالونيا في القارة الأوروبية بعد انفصالها تعد مسألة صعبة، كما هو الشأن بالنسبة لإسكتلندا، فالاتحاد الأوروبي يؤكد أن انفصال أي منطقة عن دولة من دول الاتحاد تعني بالضرورة إقصاء هذه المنطقة من هذا الاتحاد الذي يضم 28 دولة.
كما يبرز سؤال آخر يطرحه أحباء كرة القدم في إسبانيا والعالم، وهو: أين سيلعب فريق برشلونة؟ إذ سيتم بصفة آلية إقصاء كل الفرق الكاتالونية من الدوري الإسباني في صورة انفصال المقاطعة، وبالتالي سيجد فريق برشلونة نفسه مجبراً على اللعب في دوري كاتالوني مصغّر وضعيف، أو السعي للانضمام لدوري أوروبي آخر، وفي كل الحالات يؤكد الخبراء أن ذلك سيعود بالضرر على عائدات ومستوى هذا الفريق.
هل الانفصال يخدم مصالح كاتالونيا؟
نشر بنك “ناتيكسيس” الإسباني دراسة أوضح فيها أن مدينة برشلونة ستخسر الكثير، من خلال انخفاض عائداتها من التصدير بسبب تطبيق رسوم جمركية على سلعها الموجهة لأوروبا، بالإضافة إلى مغادرة عدة شركات عالمية متمركزة في كاتالونيا لا ترغب في تحمل تبعات مغادرة هذه المقاطعة للسوق الأوروبية المشتركة، كما تواجه كاتالونيا خطر انخفاض الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي تأتي بنسبة 80% من جهات أوروبية.
أما على المستوى الوطني، فتواجه كاتالونيا إمكانية التعرض لحملة مقاطعة من قبل السلطة المركزية، وهو أمر خطير بالنظر إلى أن نصف مبادلاتها التجارية تتم مع بقية أجزاء إسبانيا، رغم أن الانفصاليين يقللون من أهمية هذه الخطوة ويؤكدون أن حملة المقاطعة هذه لن تؤثر بشكل كبير على اقتصادهم المحلي.
كما أشارت الدراسة التي قام بها بنك ناتيكسيس إلى أن مشكلة أخرى متمثلة في إمكانية إلغاء اعتماد الأورو كعملة وطنية كاتالونية، وهو ما يزيد من ضبابية مستقبل كاتالونيا في حال استقلالها.
تقرير: ماتيلد دامجي
صحيفة “لوموند” الفرنسية
الرابط:
http://abonnes.lemonde.fr/les-decodeurs/article/2015/09/28/pourquoi-la-catalogne-veut-elle-son-independance_4775619_4355770.html