الحكمة معرفة الشيء على حقيقته، وهي أعلى درجات العلم. وعكسها الأفهام المغلوطة؛ وهي فهم الأشياء على غير حقيقتها، وينشأ عنها انتكاسات حضارية في تأريخ الأمم لا تقدر بثمن، وقتاً ومالاً!
أُهلك العملُ التطوعي في حياة الأمة الإسلامية بأمرين:
الأول: حرمانُ القائم على العمل الخيري حقَّه الكامل المتقرر شرعا بنص القرآن، بحجة الاحتساب فيما عند الله، متجاهلين قول العليم الخبير “والعاملين عليها”، وقول نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم: “من قتل قتيلاً له عليه بيّنة فله سلبه”، والحق المتقرر شرعاً للعامل ليس فتاتٌ من المال يعطاه ترضيةً لنفسه على هيئة توحي بإفهامه أنها مكافأة رمزية، وليست حقاً متقرراً يطلبه ولو بالمشاحة.
هذا الفهم مغلوط، وفيه انتكاسة شرعية، ومخالفة لسنن الله الكونية في عمارة الأرض!
حق العامل هو الأجر المكافئ لجهده، نسبة وتناسب ولو بلغ الملايين، وانتقاص درهم واحد منه بسيف الحياء والإكراه -بالفهم المنكوس لمبدأ الاحتساب – حرام شرعاً وعقلاً، وفيه تعطيل للقدرات والمواهب، ووأد للروح الطموحة الوثابة لتحصيل المزيد مما أحله الله لها مقابل جهدها المثمر.
ربما لهذا السبب ترى بعض المؤسسات الخيرية خاوية على عروشها، لا تحرز تقدماً ملموساً رغم وفرة من المال لو توافرت لأحد روّاد الأعمال لخلق منها إمبراطورية مالية ضخمة لا تخطئها عين الرائي.
عطّل مواهبَ الأمةِ قومُ يطلبون من الناس فوق طاقتهم؛ متجاهلين ضعفَ بشريتهم وانجذابهم للدنيا التي خلقهم الله منها وطبع حبها في قلوبهم، أرهقوا الناس بفهوم غالية لا تمت لحكمة وعبقرية الإسلام بأدنى صلة، فأمعنوا في شرعنة ما يزيد الأمة ضعفاً على ضعفها!
يطلبون من الناس ما لم يطلبه الله منهم، فأي دين هذا؟!
ويغمطون من حق الناس، ما كفله الله لهم فأي تقوىً هذه؟!
الأمر الثاني: كنتيجة منطقية لرواج فهم الاحتساب المغلوط، ربما كثر الهمز واللمز في مجالس بعض الناس بانتقاص دين من تحصّل على شيء من المال مقابل إدارته لعمل خيري.. وربما أُنتهك عرضُه، وشُكّك في صدقه، من أناس لم يجدوا من الفقهاء والدعاة مَنْ يوعّيهم ويفهمهم بتقرير الشرع وتكفله لحق هذا العامل المسكين كاملاً غير منقوص.
نتج عن كل هذا ضعف التطوير الحقيقي للعمل الخيري وتنميته بجميع أدوات التحفيز الشرعية والعقلية؛ مما أدّى إلى عزوف المواهب الإدارية الفذّة عن الانجذاب له والانخراط في العمل في مؤسساته، فيستفيدوا بأخذ كامل حقوقهم المحفوظة شرعاً وعقلاً، ويفيدوا المؤسسات الخيرية بإيصالها لمصاف المؤسسات العملاقة، كفاءة وشفافية وإنتاجاً.
تتسابق المؤسسات الرائدة بوضع أعلى المرتبات الشهرية للإداري الناجح، طمعاً في المزيد من التطور، فيما لا تزال بعض المؤسسات الخيرية تمدُّ الفتات لعمّالها المساكين على استحياء، ومع هذا تريد النجاح والتطور وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والإنتاجية العالية؟!
عجيبٌ والله هذا الفهم! لا شرع اتبعوه، ولا عقل تبنّوه، مبلغ علم بعضهم جهد المتسوّل، متناسين أن يد المؤسسة الخيرية العليا خير من يد المؤسسة الخيرية السفلى، وإن كان في كل خير.
للكون سنن وضعها الله لا تحابي أحداً؛ برّاً كان أو فاجراً، ومضمار سباق الأمم في كسب موارد القوة خاضع لهذه السنن، ومن تكبّر عنها بفهمه الأعوج ركلته إلى مزبلة التاريخ، والواقع خير شاهد.
المصدر: “نوافذ”.