يهل علينا شهر رمضان المبارك، بخيره العميم، وأجره المضاعف الجزيل، وفضله الواسع، وبركاته غير المحدودة، ونفحاته الأنسية، وإشراقاته القدسية، ومدرسته الروحية، إنه شهر الصيام؛ حيث القوة والصلابة، وشهر الصلاة والقيام؛ حيث الإعداد الرائد، وشهر منظومة الأخلاق؛ استعداداً لمنهج الفضيلة، حقاً إن شهر رمضان، هدية عظيمة من الجليل الرحمن، ومنة لا مثيل لها في عالم العبادة والطاعة، من الملك الكريم الذي أمر بالعدل والإحسان.
قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ “183”) (البقرة)، وعنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ» (رواه ابن ماجه في سننه (1644)، وقال عنه الألباني: حسن صحيح).
يهل علينا هذا الشهر الكريم، والأمة في وضع شديد الوطأة، واسع المحنة، عظيم البلاء، متعدد المشكلات، متنوع المصاب، متشعب الإشكالات، في كثير من بقاع العرب والمسلمين، في سورية وفلسطين والعراق واليمن وليبيا وبورما وأفريقيا الوسطى، وغيرها من بلاد المسلمين، حيث الدماء والأشلاء، والقتل والخراب، والدمار، والأشياء الكبار، مثل مصادرة حقوق الإنسان، وشيوع الظلم الذي هو أساس كل بلاء.
وفي هذا الوسط الرهيب، من العدوان الصارخ، والضلال المبين، تظهر صور البشرى، التي تملأ الآفاق فخراً وضياء، فيظهر جيل في الأمة يستحق كل تقدير وإكبار، وهو علامة فضل وخير، ويحمل في ثنايا صبره وتضحيته وجهاده وثباته معالم الغد المشرق، الذي تنتظره الأمة منذ زمن ليس بالقليل.
دروس رمضانية
ومما نتعلمه من رمضان، ونحن نعيش واقعنا المعاصر:
1– مدرسة الحرية:
يعلمنا رمضان، كيف يجب أن نتحرر من قيود الشهوة وضواغطها، وكيف ينبغي أن نتحلل من سجنها، ونغوص في أعماق الإمساك بعنان مسيرها، حتى لا تتجه بنا نحو واد هابط، أو تغرق في مستنقع آسن، أو تنحرف عن جادة المنهج القويم، وذلك بالصيام، والامتناع عن الطعام والشراب، وشهوة الفرج، من طلوع الفجر إلى مغيب الشمس، كل هذا للخلاص من حالة البهيمية التي لا تعرف حداً لإغراءات النفس، وانسياقها خلف لعاعات البصل والعدس والثوم، ولا تلتزم بضابط يردعها عن سواكن الوجدان الذي يغص بمعاني الجنوح، وهناك فارق كبير بين حالتين، وبين صورتين، فالأمة عندما تتربى على هذا تصبح قادرة – وقد تحللت من ضواغط الشد إلى شهوات الأرض ولواصقها – على العمل في مشروعها السياسي الحضاري النهضوي، الذي أساسه المطالبة بحقوق الإنسان، واستئناف الحياة على قيم العدل والكرامة، وهنا نتذكر الحرية وتلازمها مع إنسانية الإنسان، الذي يبحث عن كل السبل التي تؤدي به للوصول إلى هذا المعنى، مكرماً من الله تعالى.
كل هذا يسوقنا إلى حقيقة يحاول الذين لا يعرفون سوى شهوة السلطة ومتعلقاتها أن يطمسوها بالظلم، وتكميم الأفواه، وحبس الأنفاس، والتضييق على الناس، وبالذات منهم من يقول: لا؛ لذلك تكون الثورة بكل ما في جعبتها من فضائل، وهنا قرع جرس «الربيع العربي» إيذاناً بغد مشرق، تنتصر فيه الإرادة الصلبة على المرادات التافهة، فيتحرر العباد من هؤلاء الذين ينسجون خيوط عناكب الفتنة في كل مجالات الحياة، ومنها جوانب الحياة السياسية، وفقه الاجتماع.
فالأمة التي تتربى في مدرسة رمضان تدرك تماماً ما معنى الحرية، وتفهم الوسيلة التي تصل بها إليها، والأمر لا يعدو صبر ساعة، ثم يفرح الصائم بفطره، والثائر يظفر بحريته، ويسترد إنسانيته المسلوبة.. لك الله يا شعب سورية وفلسطين والعراق واليمن وليبيا وبورما، فرمضان مدرسة الحرية التي تخرج فيها بناة الحضارة الإسلامية، وضربوا أروع الأمثلة في القدوة الحسنة، من خلال زهد حضوري فاعل، زرع الثقة في نفوس الناظرين، وترجم إلى مشروع مسار، تسير على نهجه وفود جرارة من حملة المنهج الذين تأثروا بحركة صحوة الحياة على قيمة «لعلكم تتقون».
2- شهر الصبر والتحمل:
إذ الصوم، والكف عن شهوتي البطن والفرج، وضبط النفس عن شهادة الزور، وعن السباب والشتائم، بل يقابل ذلك من فعل به كذلك: «اللهم إني صائم»، مع عبادة وصلاة وذكر وقراءة قرآن كل هذه الساعات التي ربما تطول في بعض البلدان، يعطينا طاقة استثنائية، ويمنحنا دربة على تحمل المشاق، وفي هذا الخضم اللاحب المليء بما ذكرنا، لا بد من سلاح وزاد، أما السلاح فهو الصبر الذي به نواجه المحن، ونتغلب على الصعاب ونتحدى العقبات، فلا نسقط في الطريق ولا نهزم من أول هزة، ولا ننكسر في أول صيحة ولا نقع في أول عثرة، وأما الزاد فهو التقوى.. وهنا أشيد بأهلنا في سورية الذين يتسحرون على أصوات البراميل المتفجرة، ويفطرون على إيقاع أصوات القنابل المجنونة، ويصلون على أنغام الحارقات العمياء، على اختلاف ألوانها وأشكالها وصورها وأطوالها وأعراضها وروائحها وطعومها، كيف لا وهم في مدرسة الصبر وفي دورة الصبر والمصابرة والمرابطة، وفي خضم هذا المشهد الرهيب، يرى الشهداء ويشم رائحة الدم في كل مكان، وتبرز له معالم الرعب الشامل الذي يلفه بثوب الصبر والثبات، مستبشراً بلقاء الله تعالى.
3– شهر التطهير والتطوير والتغيير:
الثابت في هذه الدنيا هو التغيير؛ فالتغيير الإيجابي هو الذي تتجدد معه الحياة، وتتطور حركيات العمل، وتنطلق جوارح الأمل من مفاصلها المتكلسة، ودوائرها الضيقة المغلقة، وشهر رمضان مدرسة من مواد تعليمها «التغيير»؛ لأنه ثورة على النفس، وثورة على العادات الضارة، وثورة على نظم التغذية، والقضاء على الأعراف المفسدة، وكسر لنول نسيج التحرك البطيء، والعمل الرتيب، ووهن الحياة إلى غد مفعم بالحيوية والنشاط، متشبع بالبذل والعطاء، مراعياً واجب الساعة، فقيهاً بفريضة الوقت، مغيراً نحو الأحسن، ملتزماً بالثوابت، مقاصدياً في المتغيرات، وهذا له ثمنه، فلابد من الصبر والمجاهدة، وما ذنب أهل سورية الذين يتآمر عليهم، إلا أنهم طالبوا بالتغيير من أجل حريتهم وكرامتهم وحقوقهم.
4– شهر الدعاء:
على المسلم أن يكثر من الدعاء في هذا الشهر المبارك، متحرياً أوقات الفضل التي يتوخى فيها الإجابة؛ مثل ساعات السحر، وإثر الصلوات، ولا ننسى أن للصائم دعوة لا ترد عند فطره، يدعو فيها المسلم لنفسه وأهله، ولا ينسى إخوانه المسلمين في كل مكان، خصوصاً منهم أولئك الذين اضطهدوا لأنهم يبحثون عن الحرية والكرامة، ويعانون من الطغاة والمجرمين، فتقع على رؤوسهم البراميل المتفجرة، وتسقط عليهم الصواريخ العمياء، كأهل سورية الكرام الذين دخلوا عامهم السادس وهم في ثورة، صامدين صابرين محتسبين، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): «ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ» (رواه البيهقي 3/345، والضياء في «المختارة» 1/108، وفي «المنتقى من مسموعاته بمرو» 1/91، وصححه الألباني في «السلسلة الصحيحة» 4/406).
5– يعلمنا الجود والكرم:
الجود تحرر من إسار المادة وعبادتها، والتخلص من اللهث وراء الدنيا وطينها ووحلها، وصاحب المشروع الذي يبحث عن طاعة الله في مفردات تقوية بناء الأمة، يدفعه هذا إلى فقه متين، يعي من خلاله كيف ينبغي أن يسخر ماله من أجل هذه الحقيقة، واليوم أمة الإسلام تواجه تحديات جساماً، وتمر منعطفات خطرة، فهل قدمنا لهذه الأمة من مالنا ما يحل به مشكلة من مشكلات الأمة، أو يكون سبباً في وضع لبنة في بنائها النافع، هل فكرنا في مشروع للتنمية البشرية؟ هل صنعنا محضناً تربوياً؟ هل بذلنا من مالنا ما يخدم مشروعاً إعلامياً ينير الدرب للآخرين، كي تصل رسالة الخير للإنسان يصنع على مناهج الحق، من خلال رؤية تقوم على فكرة النظافة، في زحمة الإعلام الذي يذبح الأمة في بعض منتجاته، التي تزيده ضياعاً وانهياراً، جاء في الحديث الصحيح: أنه – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – كان جواداً، وكان أجود ما يكون في رمضان.
6- شهر «وحدة الأمة».. التكاتف والتعاون والشعور بأحاسيس الآخرين:
لا أعتقد أن هناك برنامج عمل جماعياً على وجه الأرض، في أيامنا هذه، أو في أعماق التاريخ، أفضل من رمضان، حيث إن المسلمين جميعاً يعلنون هذا الشهر طاعة لله، يمسكون في ساعة محددة، وكذلك يفطرون، منهج واحد في المباحات المسموح بها، وأيضاً في الممنوعات، يتساوى في هذا كل مسلم على وجه الأرض؛ الفقير والغني، الذي في الشرق، والذي في الغرب، كلهم يفعلون هذا برضاً وقناعة؛ «إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به».
نعم هذه الصورة العامة، تمثل حالة من حالات ظهور الأمة، في إطار وحدتها، ومجال تعاونها، لذا من لوازم هذا أن نحقق معنى «الأخوة الإسلامية» التي من مفردات ترجمتها على هيئة عمل، أن يرحم بعضنا بعضاً، وأن يحسن الغني إلى الفقير، وأن يشترك جميع المسلمين على وجه هذه البسيطة في هموم بعضهم، وأن يحققوا جسدية هذه الأمة، فننصر قضايا المنكوبين والمظلومين والمقهورين والمعتدى عليهم، وما الذي يحدث في سورية المجاهدة عنا ببعيد، وكذلك في باقي بلاد المسلمين، فهل من خطة تعكس هذا الأمر، كل بما يستطيع، حتى نكون «الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
فاجعل بعض زكاتك في خدمة هؤلاء المظلومين، ولا يفوتك أن تخصص بعض مالك لإفطار الصائم، والصدقة في هذا الشهر يضاعف الله تعالى الأجر فيها، وفوق هذا وذاك كن مضحياً بوقتك ومالك وقلمك ولسانك وجوارحك من أجل إخوانك، ومشاريعهم في الحرية والتغيير.