في الجزء الثاني من الحوار مع الأكاديمية الجزائرية د. فلة لحمر، أستاذة الدراسات الإسلامية بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية ببرمنجهام، الذي خصت به «المجتمع»، عبّرت عن رأيها في الجمعيات النسائية الجزائرية التي قالت: إنها تدعو إلى سلخ المرأة عن هويتها ومجتمعها المسلم، وإلحاقها بالمرأة الأوروبية استجابة لأجندات غربية تؤمن بها وتعمل على ترسيخها في الجزائر.
* كيف تردين على الدعوة التي تقول: إن المسجد يشجع على ممارسة الظلم ضد المرأة؟
– هذه دعوة بعض الجمعيات النسائية بالجزائر، وهي منطلقة من تصور هذه الجمعيات لـ «حرية المرأة» ضمن المنظور العلماني المتطرف الفرنسي بالخصوص، المقولة لخصت بعض التناقضات التي تحملها هذه الجمعيات النسوية بعمومها.
هذه الجمعيات المفتقدة لمصداقية وقوّة القاعدة التمثيلية النسوية الحقيقية، اضطرت إلى استخدام السلطة الفوقية كسبيل لفرض الوصاية القانونية، كما استبدلت بمقاومة المستعمِر السعي نحو غرس مظاهره وشكلياته كمؤشر للحرية والتحضر، وكما ذكر ابن خلدون؛ فالمغلوب مولع بتقليد الغالب، وتبعاً لذلك، فإن كان المسجد يدعو مثلاً إلى الحجاب، فبالضرورة أنه يدعو إلى حجب المرأة وظلمها بتقييمهم، لكن حين تضرب الشرطة المرأة لأجل مظاهرة سلمية تطالب فيها بحقوقها السياسية كمواطنة محفوظة الكرامة، فإن هذه الجمعيات لا نسمع لها حساً ولا ركزاً!
هذه الازدواجية نحو قضايا المرأة وأولوياتها تكشف رفض هذه الجمعيات للمبادئ الإسلامية بحد ذاتها؛ نظراً لتأثرها بالأمتعة الأيديولوجية الاستعمارية الفرنسية.
والجمعيات النسوية بالجزائر دخلت في علاقة تزاوج مع السلطة الذكورية القائمة من أجل النفوذ، ولو على حساب إلغاء الانتخابات بالعسكر، وإن لزم ذلك الاعتداء على المرأة، فالمهم إذن ليس حرية المرأة في الخيار، بل حق هذه الجمعيات في فرض خيار مظهر الحرية الشكلي الأجوف والمفصل ظاهرياً على المقاس الفرنسي والمرتبط بمصالح واعتبارات أخرى متشابكة؛ لأنه يخدم عملية التسويق للمظهر «المتحضر»، كما تعرّفه الإدارة الفرنسية والدوائر الغربية.
هذا لا يعني أن المساجد معصومة، المساجد جزء من المجتمع، وحينما تُلقى عليها الوصاية الفوقية ستفقد حيويتها وفاعليتها، وتصير – أحياناً – مجرد تسويق لعادات وتقاليد تخالف روح الشرع، ولا تعكس رقيّ المعاملة في بيت النبوة، بل قد تُستخدم لتزكية المتهمين في قضايا السرقة والفساد.
المشكلة في ثقافة الدكتاتورية التي تستشري في أنحاء المجتمع، والحل هو إثراء الحوار المجتمعي، وفتح المجال العلمي في المساجد، عندئذ سنرى نساء كثيرات ينظرن لحقوقهن من خلال المسجد، حالياً هناك الكثير من الناشطات عبر المساجد، ولكن لا تزال هناك قيود رسمية سياسية تحول دون الانتعاش الحقيقي النسوي بكل أبعاده.
إن هذه الجمعيات تمارس العنف ضد المرأة بفرض الوصاية عليها والحديث باسمها من غير تمثيل انتخابي شرعي.
* برأيك، ما الذي تريده الجمعيات النسائية في الجزائر من خلال دعوتها إلى إلغاء الولي في الزواج ومنع التعدد؟
– الجمعيات النسائية في الجزائر جمعيات سلطوية بالدرجة الأولى، ولا تهتم بجوهر حقوق المرأة، إنها تقف مع «الحيط الواقف»، كما نقول بالجزائري، وهي جزء من ديكوره، تلك أيديولوجيات مفروضة من الخارج، وتُستخدم كأوراق تزيينية لإثبات أن السلطة الحالية مع حقوق الإنسان، رغم كل الانتهاكات.
الدول الغربية الكبرى تحب نغمة «حقوق المرأة»، ولذلك تاريخه وملابساته المختلفة في أوروبا، ولكن هذه الحقوق تُعرف وتسوّق عندنا بحسب ما تعتقده الحركة النسوية الغربية وليس بأولويات واهتمامات المرأة المسلمة في البلاد الإسلامية؛ وهو ما يعني أن هذه الجمعيات تسوّق المرأة المسلمة على أنها مستسلمة، وواجب الحجر عليها؛ لأنها لا تعي حقوقها جيداً، وعلى هذه الجمعيات المستغربة أن تلحقها بأختها الأوروبية وبمعايير المرأة الأوروبية، هذه المنطلقات متجذرة في الفكر الاستعماري الاستعلائي المحتقر لمبادئ الشعوب المستعمرة.
ليت الدعوة كانت ضمان العدل والقدرة في التعدد والحفاظ على كرامة المرأة، مع ضمان عدم إجبار الولي وعدم استخدامه لوجوده لأجل التعسف؛ لأنه ليس لأولياء الأمور إجبار النساء أو منعهن من الزواج في حال وجود الكفاءة، حين تشجع الفتيات على الزواج من دون ولي في مجتمع مسلم يقوم على التكافل؛ فإن ذلك سينجر عنه تفكك زيجات كثيرة، وتجد المرأة نفسها وأولادها حينئذ في الشارع من دون حصانة مجتمعية ولا كفالة الدولة المتعثرة في أزماتها، فأين ستتجه؟! وما مستقبل نواتج تلك العلاقة؟ هل هذه هي أولويات المرأة الجزائرية التي تعاني المرّ في الحفاظ على أساسيات صحتها في المشافي التي باتت مرتعاً للأوبئة أثناء الولادة وغيرها.
* عوانس بالآلاف في الجزائر، ومطلقات كذلك.. هل تعتقدين أن منح المرأة الحق في الحصول على مسكن الزوجية بعد الطلاق في الجزائر سيقلل من ظاهرة العنوسة؟
– ولماذا لا نسأل: هل توفير السكن للأسر الجديدة سيقلل من ظاهرة الطلاق؟ حينئذ سأقول: ربما نعم؛ لأن الكثير من المشكلات الاجتماعية متعلقة بغياب السكن المنفرد للأسرة الجديدة بما لا يوفر للزوجين الجديدين فرصة مناسبة لبناء علاقتهما بعيداً عن الضغوط المحيطة.
أما عن المطلَّقة؛ فالواجب توفير السكن المناسب لها كحاضنة، إن قامت بحضانة الأطفال، وهذا لأجل حماية الأطفال بعد الطلاق.
لكن أجد النقاش العام فيما يخص المطلقات وحقوق النفقة والسكن يأخذ منحى سياسياً بامتياز، فجهة تدافع عنه لأغراض سياسية من دون توفير حقيقي لما تدعيه في الواقع، ومن الجهة الأخرى معارضة باسم الحفاظ على الأسرة، وتنسى أن ذلك من صميم ديننا، للأسف ذلك يعطي أوراقاً للجمعيات النسوية اللاهثة نحو السلطة والمتاجرة بملفات المرأة بحسب ما يناسب أجندتها السياسية وتوجهاتها الأيديولوجية.
ومجتمعنا يفتقد إلى حوار حقيقي مبني على رؤية بعيدة المدى، وبحوث اجتماعية ونفسية وشرعية في هذا الموضوع.
* المناهج التربوية في مدارسنا وجامعاتنا، هل ترين أنها قادرة على تكوين المواطن والمواطنة الصالحين لبناء المجتمع على أسس سليمة؟
– للإجابة عن هذا السؤال يلزم أن نناقش «الأسس السليمة» بالنسبة للمجتمع الجزائري، ومن الإنصاف أن نقول: إن المجتمع الجزائري مسلم في أغلبيته الساحقة؛ وبالتالي فالأسس السليمة تكمن في احترام مبادئ الدستور الأساسية التي تبناها هذا الشعب، الإسلام هو دين الدولة، واللغة العربية موحدة بين مختلف أعراق المجتمع الجزائري، والأمازيغية لغة أصيلة في هذا البلد، وعلى المنظومة التربوية أن تراعي ذلك.
لكن للأسف؛ وزارة التربية بالجزائر تعمل بمنطق الترقيع الآني وليس بمنطق النظر البعيد الحضاري الاستشرافي، وفترة أبو بكر بن بوزيد، وزير التربية السابق، شهدت تخبطات كثيرة، ومغامرات بمستقبل أجيال، وتبعية لفرنسا الاستعمارية بدل البحث عن مصلحة الوطن بالدرجة الأولى.
أليس من المهازل في دولة لغتها الأولى «العربية» أن تنصِّب على وزارة التربية شخصية لا تحسن تكوين أبسط جملة بالعربية، وهي التي عاشت وعملت بالجزائر؟! بل كانت ضمن لجنة ابن زاغو لتقييم سير العملية التربوية بالجزائر.
المشكلة اللغوية ترسل رسالة قوية إلى القطاع التربوي بعدم احترام اللغة الأولى للبلاد، ولها تداعياتها في المناهج بعد ذلك، أما بالنسبة للغة الأمازيغية فهو حق أريد به بعض الأهداف السياسية البحتة، كان الأولى تتبع الأمر علمياً وحلّ إشكاليات تطبيقها والكيفية الفاعلة للاستثمار الإيجابي في التنوع لأجل غرس روح الاحترام، ولن يكون ذلك إلا بحوار مجتمعي محترم للجميع كي يكون الأمر حلاً وليس مشكلة أخرى.
أما بالنسبة للإصرار على الفرنسية كلغة ثانية بالجزائر مع الوفاء الكبير لوزيرة التربية للغتها الأولى الفرنسية، فلا يبشر بخدمة مصالح الوطن ضمن المؤسسة التربوية؛ لأن الفرنسية الآن في تراجع، والإنجليزية أكثر انتشاراً بين الشعوب، كما أنها أكثر انتشاراً في المجال العلمي من الفرنسية، كنت في فرنسا مؤخراً، ولاحظت إقبال الشباب الفرنسي على الإنجليزية؛ لأنها تفتح لهم آفاقاً إضافية للتوظيف وتحسين رواتبهم بالعمل في الشركات الدولية.
للأسف؛ إن لغات الوطن يُقلَّل من شأنها أو تُستخدم بطرق انتهازية للاستثمار السياسي، وهذا له تداعياته السيئة مستقبلاً على نسبة قبول فئات الشعب لذلك، كما أن تقديم الأمازيغية دون دراسة حقيقية وأهداف وطنية واضحة تضمن تحقيق الوحدة الوطنية بقدر الإمكان يزيد الأمور تعقيداً ولا يحلها، بناء على هذا أقول: إن المنظومة التربوية الجزائرية حالياً ليست على الأسس السليمة لغوياً لتكوين المواطن القادر على المنافسة في سوق العمل والتقدم العلمي، أو الملتحم داخلياً في المدى البعيد.
أما إن انتقلنا إلى الجانب الثاني والمحوري في مناسبة الرؤية التربوية للوزيرة لمنصب وزيرة التربية والتعليم في بلد لغته الأولى العربية، ودينه الإسلام، وليس في فرنسا العلمانية بتطرف، فيجب أن نفهم فلسفة نورية بن غبريط التربوية ضمن نشاطها البحثي مع دول حوض البحر الأبيض المتوسط، ومنظمة «اليونسكو»، ولجنة ابن زاغو، وكلها تدفع نحو «العلمنة» وتهميش سلطة الدين في المناهج، بل إن اللجنة اعتبرت التربية الدينية في المدرسة الجزائرية كمهيئ لظهور التطرف لاحقاً، ولذلك فالوزيرة ابن غبريط تدعو في كتاباتها المختلفة إلى تغيير في المدرسة الجزائرية نحو الحداثة، ومنها الحداثة في فهم الدين! وفصل مؤسسة الشؤون الدينية عن مؤسسة التعليم، والتمييز بين الدين والعلوم في المرحلة الابتدائية، وفي مقال آخر تصف الحال بالجرعة الزائدة من الدين في المدرسة الجزائرية ما قبل فترة التسعينيات.
فهل هذه هي الأسس السليمة التي نسعى إليها في مجتمع مسلم ولد ابن باديس الصنهاجي الأمازيغي المعتز باللغة العربية كلغة للقرآن، وحارب فرنسا بالتعليم لأجل الحفاظ على هويته الإسلامية؟ المشكلة أنها تسير نحو التبعية اللغوية لفرنسا ولذلك انعكاساته السيئة في مجالات مختلفة منها الاقتصاد والبحث العلمي، كما أننا نسير نحو المزيد من «العلمنة» الشكلية المفروضة فرضاً والممنهجة مع التمييع من حيث التربية الدينية والنشاطات الثقافية، للأسف فهذا لا يخدم البلاد ثقافياً أو علمياً أو اقتصادياً أو دينياً.
* الأسرة العربية بشكل عام، والجزائرية بشكل خاص، لماذا أصحبت تخرج لنا بعضاً من أبنائها مرضى نفسيين، ومدمنين على المخدرات ومجرمين؟
– أنا أعيش في مجتمع غربي، ولذلك أرى أن الأسرة العربية بشكل عام وكذلك الجزائرية بشكل خاص لا تزال بخير رغم كثرة الانحرافات التي طفت على السطح، أما عن الأمراض النفسية فلا ندري هل زادت على ما كانت عليه أم تحسنت طرق توصيفها عما كانت عليه سابقاً؛ وبالتالي توحي بالزيادة، هذا يحتاج إلى بحوث عميقة.
لكن في العموم؛ ففي زمن العولمة وانتشار الإنترنت والفضائيات صار الطفل معرضاً للكثير من أفلام العنف ومظاهر الانحراف الأخرى فيما يشاهده عند غياب الوعي الأسري في التعامل مع الوضع الجديد، كما يتعرض الطفل للكثير من العنف في البيت، والشارع، والمدرسة مع غياب مؤسسات الطفولة الداعمة أو التدريب اللازم للمدارس لمكافحة التنمر بين الأطفال، بل وتنمر بعض المعلمين كذلك، مثلاً، الضرب منتشر في الأسر الجزائرية والعربية كوسيلة سريعة للتأديب.
إضافة إلى ذلك؛ ضعف المرافق الرياضية والترفيهية الآمنة للأطفال في مثل هذه التجمعات السكانية المكثفة، نجد مثلاً في بريطانيا، رغم صغر مساحتها وكثافة سكانها، اتجاهاً نحو هدم العمارات واستعمال مساكن أرضية بحديقة خلفية من أجل توفير جو مريح للأسر.