الدراما الأكثر تأثيراً في المتلقين بما تمتلكه من مقومات جمالية وخاصية إعادة تمثيل الحياة
إشكالية الهوية نشأت حينما تلاقت الحضارة الأوروبية بالمجتمع العربي عقب حملة «نابليون» على مصر
الغرب يحرص على ترويج ثقافته فيسعى إلى بسط نفوذه السياسي والاقتصادي عبر مؤسسات وخطط دقيقة
المتابع للمشهد الأدبي منذ اليونان وحتى اللحظة الراهنة يجد بما لا يدع مجالاً للشك أهمية الدراما في تشكيل وعي الجماهير وتوجيه قناعاتهم، والتحكم في سلوكهم؛ ولذلك قام أفلاطون – وهو بصدد تأسيس مدينته الفاضلة – بطرد الشعراء من هذه المدينة، وحين نقول الشعراء، فإننا نعني بهم شعراء الدراما، فهذا النمط من الشعر هو الذي كان مهيمناً على المشهد الأدبي حينها، وهنا يُطرح سؤال: لماذا طرد أفلاطون الشعراء من مدينته الفاضلة ورفع في وجوههم «الكرت الأحمر»؟ وهل استثنى فريقاً من الشعراء أو أنه عمم حكمه على الجميع؟
تقول المصادر ذات العلاقة بالنظرية الأدبية: إن أفلاطون طرد الشعراء لسببين؛ أولهما أنهم يضعفون الجماهير بما يقدمونه من أدب تراجيدي حزين؛ يودي إلى إثارة الشفقة والمشاعر الحزينة، وذلك لا يتسق مع رغبة أفلاطون في تأسيس جمهوريته القوية في مواجهة الخصوم، والسبب الثاني أنهم – أي الشعراء – يشوهون الحقيقة؛ لأن الأدب لا يقدم الحقيقة كما هي بل يلبس عليها، ويخيل، ويخدع، فالأدب ذو طابع تخييلي لا تعنيه المعاني الدقيقة للحقيقة؛ ولهذين السببين استحق الشعراء في اليونان غضبة أفلاطون فطردهم من مدينته الفاضلة، ولم يستثنِ سوى فريق واحد هم شعراء الملاحم الذين يمجدون بطولات الأمة، ويحيون فيها قيم الشجاعة والكفاح.
إن هذه التوطئة تجعلنا أمام سؤال عميق عن مهمة الفن والفنان، عموماً، والأدب خصوصاً، وهو سؤال طالما حارت فيه النظريات الأدبية منذ القديم، وحتى اللحظة المعاصرة التي ازداد فيها هذا السؤال ضراوة بفعل ما يشهده العالم من شيوع لفلسفة التفكيك، وانشطار الهويات بل وذوبانها، وتمزق الذات الإنسانية تمزقاً لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.
وقد تباينت الرؤى في هذه المسألة، فمن النظريات من ترى أن الإمتاع هو مهمة الأدب، ومنها من ترى أن المنفعة هي مهمة الأدب؛ أي تحقيق رسالة اجتماعية أخلاقية حيال الأمة التي ينتمي إليها الأديب، أو المجتمع الذي يعيش فيه.
الدراما الأكثر تأثيراً
ولا شك في أن الدراما خصوصاً والسرد عموماً يعد الأكثر تأثيراً في المتلقين بما يمتلكه من مقومات جمالية إذ إنه يمتلك خاصية إعادة تمثيل الحياة من منظوره الخاص، كما يسترعي اهتمام المتلقي حين يترك فجوات سردية يقوم المتلقي بملئها، وما تنهض به العقد السردية من شد لاهتمام المتابع، كما أن خاصية التخييل التي ينهض على أساسها السرد من تلك العوامل المهمة في العمل السردي، كل تلك السمات تؤهل الدراما والسرد عموماً لأن يكون في مقدمة الفنون في التأثير.
ولذلك نلحظ أن الفنون السردية تحظى باهتمام بالغ لدى الأدباء من ناحية، ولدى القراء من ناحية أخرى، وقد أدى التطور التقني الحديث إلى الارتقاء بفن الدراما، فبدلاً من المسرح الذي كان النظارة يذهبون إليه لمشاهدة الدراما، أصبح المسرح متاحاً في كل بيت، وفي كل مكتب، وفي يد كل شخصٍ؛ متمثلاً بالشاشة الخضراء شاشة التلفزيون في البيت أو شاشة الحاسوب في البيت والمكتب أو شاشة الهاتف الجوال في متناول يد كل فرد من أفراد المجتمع تقريباً.
هذه الإتاحة تجعل دائرة التواصل أوسع؛ وبالتالي دائرة التأثير على المتابعين.
ولكن السؤال الذي يطرأ بقوة: هل الدراما العربية تؤدي إلى ترسيخ الثقافة العربية؟ وهل الدراما العربية تسعى لتعميق هوية الانتماء للأمة العربية الإسلامية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال لا بد أن تأخذ في اعتبارها سؤال الكتابة؛ لماذا يكتب المبدع العربي؟ وما علاقة الكاتب العربي بما يكتب؟
فهل يكتب الأديب العربي لأنه مسكون بأسئلة الهوية؟ وهل هناك مشروع عربي حقيقي ينتظم أعمال المبدعين شعراً ونثراً، رواية ومسرحاً، وقصة؟
وهل هناك مشروع سياسي حضاري عربي إسلامي يتجه لمقاصده الحضارية الكبرى، وينهض بتوجيه المشروع الإبداعي؟ وتقويم مساره؟ ضمن مشاريع الحياة المختلفة التي ينتظمها المشروع الحضاري؟
الدراما الرمضانية
إن سؤال الدراما ليس سؤالاً مفرداً، ولا ينبغي أن نتناوله مستقلاً عن هذه الأسئلة، ولن يكون تناول سؤال الدراما الرمضانية في معزل عن هذا الأفق برمته، ولذلك يمكن القول: إن ما تقدمه الدراما في رمضان هو الأكثر استفزازاً لخصوصية الشهر الكريم من ناحية، فهو شهر كرمه الله بأن أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، ولأنه شهر هدى وبينة؛ فإن المؤمل أن ينشغل الناس فيه بما يعزز الهدى، وبما يؤدي إلى تنمية روح التقوى، ويعيد الأمة إلى صراطها المستقيم؛ ولذلك تسعى العديد من القنوات الفضائية إلى استغلال حاجة الناس للترويح بعد ساعات العناء الطويل فتقدم لهم وجبات درامية مكثفة في ليالي هذا الشهر الكريم، فالدراما الرمضانية تأتي ضمن الدراما عموماً، وهذا يجعلنا أمام سؤال محوري: لماذا تقوم الدراما بتقديم مادة فيها إخلال بقيم الهوية العربية الإسلامية؟ ولماذا يتم تأليف المواد الدرامية التي تمس الحساسية الدينية والأخلاقية والاجتماعية في المجتمع العربي المسلم؟
لماذا تقوم الدراما بتشويه الشخصيات الدينية والتاريخية المعتبرة التي لها صورة متخيلة في الذهنية العربية الإسلامية تقوم على التبجيل والتقدير نظراً لإسهاماتها في خدمة الأمة، بمعنى آخر لماذا تضع المقدس التاريخي، الديني، الاجتماعي، الأخلاقي في سياق المدنس، وتسلب منه قيمته الرمزية الاعتبارية؟!
تلك إشكالية عميقة في علاقة المثقف بمرجعياته أولاً، وعلاقة المؤسسات الثقافية والإعلامية بهوية المجتمع، وعلاقة الذات بالآخر.
وهي إشكالية نشأت في مطالع القرن التاسع عشر، حينما تلاقت الحضارة الأوروبية بالمجتمع العربي عقب حملة «نابليون بونابرت» على مصر والشام عام 1798م، هنالك بدأ السؤال يتشكل: كيف نبني هويتنا الثقافية؟ وما علاقتنا بالغرب؟ وما علاقتنا بالذات؟ وهي أسئلة ما يزال صداها إلى اليوم، لم نستطع أن نجيب عنها إجابة شافية؛ لأننا لم نستطع أيضاً أن نصنع لأنفسنا مشروعاً حضارياً ينتظم فعاليات حياتنا.
وما دمنا غير قادرين على صناعة مشروع سياسي ثقافي اقتصادي – حتى الآن – فسنظل عاجزين عن إنشاء مشروع فني أو تقديم عمل درامي فاعل ومجسد لطبيعة الهوية الثقافية حامل لخصائصها وخصوصيتها.
وهنا أتذكر مقولة للناقد عبدالعزيز حمودة يقول: كنت في أمريكا وحضرت مسرحاً تقدم فيه أعمال مسرحية، فإذا بالمسرحية تجسد معاناة اليهود في فلسطين، ولم ينته العمل الدرامي حتى كان الكثير من الحضور يجهشون بالبكاء! فتألمت أن يتم تشويه الحقيقة، وذهبت لمسؤول المسرح وحدثته أن الفلسطينيين هم من يتعرض للاضطهاد والظلم، فقال: حتى يتم كتابة دراما عن معاناة الفلسطينيين سوف نعرضها هنا، هذا النص لا تزال الذاكرة تحتفظ به منذ سنوات حين قرأت كتاب د. حمودة، وتألمت كيف يمتد الآخرون في فراغنا؟ وكيف يحققون حضورهم بالتشويه والتزوير وتغييب الحقيقة؛ لأننا لم نستطع أن نقدمها للآخرين بالصورة المثلى.
لقد نهض العديد من الكتَّاب في محاولة لتقديم نماذج سردية روائية ودرامية تنتسب لروح الأمة، ولكن لم يكتب لها الاكتمال في مشروع متنامٍ متراكم يحقق هويته، فبقي المكان شاغراً لكل من لديه الرغبة والقدرة في أن يكتب دراما أو عملاً سردياً، ويظل السؤال قائماً: لماذا يتسم الكثير من الأعمال السردية بسمة الانتهاك للمقدس؟
إن الجواب عن هذا السؤال ليس يسيراً، ولكن يمكن القول على وجه الإجمال: إن هناك عوامل عدة منها ما هو متعلق بالآخر وعلاقته بنا، ومنها ما هو متعلق بعلاقتنا نحن بالآخر وخصوصاً الغربي، ومنها ما هو متعلق بالتراث، ومنها ما هو متعلق بالفنان المبدع في اللحظة الراهنة، ومنها ما يتعلق بمن يمثلون الاتجاه الديني أو السلطة الدينية في بعض البلدان الإسلامية.
فالآخر الغربي يحرص على ترويج ثقافته وتوسيع مركزيته؛ ولذلك يسعى في بسط نفوذه السياسي والاقتصادي، وفي الوقت نفسه يسعى لبسط نفوذه الثقافي عبر مؤسسات وخطط وبرامج دقيقة، يرصد لها ميزانيات ضخمة وفق رؤية واقعية واستشرافية، ويمكن أن نقرأ كتاب «من الذي دفع الثمن؟: وكالة الاستخبارات الأمريكية والحرب الباردة الثقافية»، وهو كتاب للباحثة البريطانية «فرانسيس ستونور سونديرز»، يكشف عن وثائق خطيرة لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أفرجت عنها بالتقادم، تثبت عملية اختراق واسعة للمؤسسات الثقافية والأفراد وتجيير الأنشطة لصالحها عبر تمويل ودعم مجلات ومؤسسات ومفكرين ومثقفين ومؤتمرات، وما ورد في هذا الكتاب هو الجزء البارز من جبل الجليد في الفعل الثقافي الأمريكي ومدى اختراقه لمؤسسات في مختلف أرجاء العالم منها العالم العربي والإسلامي.
كما أن الغرب الذي يعج بفلسفة التفكيك على كل المستويات، بما أفرزته الفلسفات المتعددة والمتباينة في المجتمع الغربي، يسعى لفرض النمط الذي يعيشه على المجتمعات الأخرى، عبر شركات عملاقة، ومؤسسات ثقافية واقتصادية وإعلامية؛ ولذلك فهو يدعم كل المؤسسات التي تسانده في فرض شروطه وأنماط ثقافته؛ فيسعى إلى تفكيك الهويات الدينية، والسياسية، والثقافية، لتسود هوية الإنسان التفكيكي (السوبرمان) الأمريكي، الذي يرى «فوكو ياما» أنه يمثل «نهاية التاريخ».
كما أن مما يتعلق بنا في العالم العربي والإسلامي هو حالة التقليد للمنتج الغربي الذي يسبق في الحضور، وإذا كان الغرب هو المهيمن والمسيطر سياسياً واقتصادياً فنحن نلوذ بالتقليد ونجتر ما ينجزه، ونتخذ من الجاهز الثقافي والإبداعي نموذجاً يحتذى، ومن غاب عن مسرح الفعل ومسرح الحضور فإنه لا شك سيقلد من فعل ومن حضر.
تشويه التاريخ
كما أن العديد من المصادر التراثية تقدم لنا مادة تاريخية مشوهة للتاريخ وقائع وأفراداً ومؤسسات، ولذلك يلجأ بعض المبدعين إلى استدعاء تلك الصور المشوهة في إبداعه ويقدمها للساحة الثقافية، وحين يقدم المبدعون الكبار تلك الصور المشوهة في أعمال مكتوبة أو ممثلة فإنها تجد لها تأثيراً على مستويات مختلفة، ولذلك تنشأ الصور المشوهة عن تاريخنا وثقافتنا.
وقد يكون المبدع الباحث عن الظهور السريع سبباً في تشويه صورة الذات العربية الإسلامية؛ فلكي يخطف الأنظار، ويستدعي ردود الأفعال يخالف السائد الثقافي، ويستفز الحاسة الدينية والاجتماعية والأخلاقية فيما ينتجه من أدب، أو ما ينجزه من دراما، فذلك أدعى لأن يغدو مشهوراً تستقطبه المؤسسات الغربية، حين تهاجمه المؤسسات الدينية، ويظن أن الشهرة الأدبية يمكن أن تتحقق من بوابة الاستفزاز.
ويمكن أن يكون هناك عامل آخر، فالصورة التي يقدمها المتدينون الجهلة بالدين، وبعض المؤسسات المنتسبة للدين، وطريقة تعاملهم مع المجتمع ومع المثقفين والأدباء وتعاطيهم مع المنجز الأدبي الثقافي دون وعي بخصوصيته وطرائق التعامل معه، قد يؤدي ذلك إلى رد فعل عكسي؛ فينهض الأدباء فيما يكتبون إلى التشنيع بكل ما هو ديني، ويتباهون في نقد صورة المتدين، وقد يمتد ذلك إلى الخلط بين الدين والمتدين، فيهاجمون كل ما هو ديني أو يمت إلى الدين بصلة، ويجاهرون برؤاهم التي لا تتفق مع الديني، أو مع المتدينين.
إن الدراما خصوصاً والأدب والفعل الثقافي عموماً يعيش إشكالية حقيقية هي امتداد للإشكال الحضاري بكل تفاصيله؛ السياسي والاقتصادي والثقافي، وذلك يمثل جزءاً من المأزق الحضاري الذي تعيشه الأمة، وهذا يقتضي توصيفاً دقيقاً وجهداً عميقاً في تلمس العلاج الناجع، عبر مشروع حضاري وسطي جامع.
*أستاذ الأدب والنقد الحديث
جامعة الملك خالد