إننا بصدد نمطين أو نسقين من الآيات والمقاطع القرآنية التي تتعامل مع الزمن والمكان؛ نمط أو نسق يعتمد المعايير اليومية الآنية، وآخر يكسر الحواجز باتجاه كل زمن ومكان، وبالمعايير التي تتجاوز النسبي الموقوت إلى الفضاء المفتوح على مداه.
الشواهد القرآنية كثيرة، ومنبثة في كتاب الله من بدئه حتى منتهاه، ولذا سأقتصر في هذا البحث الموجز على عدد منها فحسب، وأترك للقراء الذين يملكون الذائقة الحساسة التي تعرف كيف تتعامل مع كلمات الله المدهشة أن يكتشفوا بأنفسهم المزيد.
خطاب القوة في القرآن:
في الآية الخاصة التي تخاطب المسلمين، أو تأمرهم بعبارة أدق بإعداد القوة في مجابهة خصوم الأمة، نلحظ مستويين للخطاب؛ أحدهما عام يُعنى بمطلق القوة سواء كانت خنجراً أم سيفاً أم رمحاً أم رصاصة أم قنبلة أم صاروخاً عابراً للقارات.. القوة على إطلاقها بغض النظر عن الزمن الذي تتشكل فيه، وثانيهما خاص يعنى بالقوة الأساسية لعصر التنزيل، وربما للعصور التي تليه: سلاح الفرسان الذي ظل يعمل عمله حتى الحرب العالمية الثانية: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ {60}) (الأنفال).
فلو أن الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة، انتبهت إلى هذا الخطاب ولاحقت، بل سبقت القوى الغربية في ابتكار السلاح الأكثر قدرة على الضرب، لما كان هذا الذي كان من تفوقّهم علينا، وازدياد هذا التفوّق بمعدلات المتواليات الهندسية، وإمساكهم بنا – بقوة السلاح – من رقابنا، وإرهابنا، وتحكمهم في مصائرنا.
والمدهش أن كتاب الله يقطع ألسنة القائلين بدعوة القرآن إلى الإرهاب، مما تلوكه ألسنة الخصوم وإعلامهم صباح مساء، في الآية التالية تماماً لآية الإعداد: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ {61}) (الأنفال)، فالقاعدة الإسلامية هي الجنوح للسلم، ولكن بسبب من نزعة الإسلام الواقعية فإنه يأخذ بكل مسألة أو ظاهرة بأطرافها كافة، ولا بد في هذه الحالة من إعداد القوة على إطلاقها لمجابهة الخصوم الذين يكيدون لهذا الدين.
إن القرآن يقودنا دائماً عبر رحلة تخرج بنا من التاريخي إلى الحضاري، من الزمني الموقوت إلى الفضاء المفتوح على سائر الفعاليات الحضارية التي تمكّن الأمة من حماية نفسها ومجابهة خصومها، بكل ما يتمخض عنه العقل البشري من قدرات على الكشف والابتكار، وتلك هي الظاهرة التي جعلت الغربيين الفجرة يتفوقون علينا بها، وقد أراد كتاب الله لنا أن نسبقهم ونقطع عليهم الطريق.. ولكن!
من موازين الأشياء إلى الموازين الكونية:
في الآيات الخاصة بـ«الميزان» نلحظ الخطاب الثنائي نفسه، الموازين التي نزن بها حاجياتنا اليومية وتلك التي قامت عليها سنن الكون والحياة والوجود على إطلاقها.
دعوة مؤكدة لأن نزن ما يباع ويشترى من مأكل وطعام بما لا يلحق غبناً بالبائعين والمشترين على السواء، يقابلها تأكيد على الموازين الكبرى التي أريد للكون أن تنضبط حركته بها فلا يميل ولا يجور، إنه العدل الإلهي المركوز في بنية الكون، والذي أريد للبشرية أن تلتزم به، وأن تحكم بالقسط، فلا يطغى بها الميزان.
ما أجمل الحياة وأسعدها، عندما يتحقق هذا الوفاق المرتجى في الحالتين؛ موازين الأشياء والموازين الكونية، حيث لا غش، ولا ابتزاز، ولا سرقة، ولا تدليس، ولا ظلم، ولا طغيان، هذا ما سعت الرسالات السماوية إلى تنفيذه في العالم، وجاء خاتمها الإسلام لكي يضع بصماته النهائية عليه، ولكن ماذا نقول للكفرة والعلمانيين الذي يسعون إلى فك الارتباط بين الدين وقدرته على إدارة الحياة بقوة السياسة وآليات الدولة؟
إنها – إذا أردنا اختصار المحاولة بأقل الكلمات – خيانة للإنسان والبشرية، ومحاولة لابتزازهما والانحراف بهما عن منطق العدل، ومطالب الميزان!
في الخطاب الأول يتعامل القرآن الكريم مع عالم الأشياء وفي الثاني مع القيم الكبرى، والأمر سواء، ما دام أن الهدف في الحالتين هو تحقيق العدل في هذه الحياة، وحماية الإنسان من كل صنوف الغدر والابتزاز سواء في أموره اليومية المعيشية، أو في نشاطه السياسي والاجتماعي العام، ولنقرأ: (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ {1} الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ {2} وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ {3} أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ {4} لِيَوْمٍ عَظِيمٍ {5} يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ {6}) (المطففين).
ورغم أن هذا المقطع يعنى بشؤون الناس اليومية في البيع والشراء، وضرورة الوزن لهم بالحق والعدل؛ فإنه ما يلبث أن ينقل البائعين، بل يتهددهم بأنهم مبعوثون بغشّهم وخيانتهم ليوم الحساب العظيم الذي سيقوم فيه الناس لرب العالمين، جلّ في علاه.
إنها نقلة مؤثرة من اليومي إلى الأبدي، ومن الراهن إلى المطلق، ومن الجزئي إلى الكلي، ومن التاريخ إلى الزمن المفتوح، كل ذلك من أجل أن ينبه الناس إلى قيمة العدل في موازينهم وتجاوز كل ما من شأنه أن يمسّها بسوء.
ولكن القرآن لا يقف عند هذا الحدّ، بل يمضي مصعّداً من أجل تأكيد «الميزان» الذي خلقت به وله السماوات والأرض: (وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ {7} أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ {8} وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ {9}) (الرحمن)، الميزان في مستوياته العليا؛ السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإستراتيجية من أجل جعل الحياة البشرية، التي افترسها اللصوص الكبار – باسم رفض تدخل الدين في السياسة – جديرةً حقاً بأن تعاش!
الزمن المحدود والزمن المنفتح:
في الآيات والمقاطع القرآنية الخاصة بالزمن نلحظ ثنائية الخطاب القرآني نفسه ما بين الزمن الأرضي التافه، المنصرم، المحدود، وبين الزمن الكوني المنفتح على مداه، ما بين الثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والشهور والسنين المأسورة بالثلاثمائة والستين يوماً وبين الزمن الكوزمولوجي الذي يقاس بالسنين الضوئية ذات المديات التي تعجز العقل عن ملاحقتها وتصوّرها!
في الأولى نقرأ: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ) (التوبة: 36)، فنجد أنفسنا إزاء معيار زمني قصير، محدود، أراده الله سبحانه وتعالى كذلك، لكي يتلاءم مع حياتنا الأرضية القصيرة المحدودة، إنه معيار مناسب لحجمنا تماماً في هذه الحياة الدنيا، لهمومنا ومطامحنا ولهاثنا المحموم وراء مغريات الحياة.
وحدته الزمنية هي السنة المكونة من اثني عشر شهراً، والتي تمضي إلى غاياتها المنصرمة بعد ستين أو سبعين دورة زمنية، ومع ذلك يتكالب الطواغيت والفراعنة والمـتألهون في الأرض من أجل الإمساك بهذه السنوات كي لا تتفلت من بين أيديهم، فماذا لو مدّ في الأعمار إلى ألف سنة أو ألفين؟ ماذا كانوا سيفعلون؟ تلك هي حكمة الله سبحانه ومشيئته العليا، أن يحجّم الأعمار وفق هذه النسبة التافهة المحدودة كي لا تتحول الحياة البشرية إلى غابة موحشة يفترس فيها القوي الضعيف، وينزو السفلة حتى على البهائم والأطفال!
إنها حياة سريعة منصرمة، حتى لتبدو للناظرين إليها يوم الحساب يوماً أو بعض يوم، أو ساعة من زمن، أو حفل تعارف ما يلبث المنفضون عنه أن ينسوا حتى أسماء وملامح الوجوه التي تعرفوا عليها: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ) (يونس: 45)، (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً {52}) (الإسراء)، (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ {113}) (المؤمنون)، (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ) (الروم: 55)، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ) (الأحقاف: 35)، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا {46}) (النازعات)، (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً {103} نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً {104}) (طه).
في الثانية نقرأ: (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ {5}) (السجدة)، (وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ {47}) (الحج).
بل إن اليوم الواحد ليغدو في العرض القرآني 18.250.000 يوم أرضي: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ {1} لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ {2} مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ {3} تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ {4} فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً {5} إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً {6} وَنَرَاهُ قَرِيباً {7}) (المعارج).
والقرآن يحدثنا في أكثر من موضع عن الأيام الكونية التي تمّ خلالها خلق السماوات والأرض، إنها أيام قلائل لا تتجاوز الستة، ولكن أي أيام هذه التي تم فيها بناء السماوات وتهيئة الأرض لاستقبال الإنسان الذي كلف بالخلافة في هذا العالم، إنها بالتأكيد أيام كونية لا تقاس مطلقاً بأيامنا الأرضية السريعة، العابرة: (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ {9} وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ {10} ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ {11} فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ {12}) (فصلت)، (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) (الأعراف: 54).
ويجيء علماء الفيزياء والكوزمولوجي الكبار في القرن العشرين، وعلى رأسهم «آينشتاين» لكي يؤكد في نظرية «النسبية» حقيقة الفارق الهائل بين الزمن الأرضي والزمن الكوني، ومع تأكيد هذا الفارق، كشف لحقائق أخرى لا تقل أهمية تجيء مطابقة تماماً لما سبق وأن أورده كتاب الله، من مثل حقيقة الانفجار الكوني العظيم الذي يعكس مصداقية الآية: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ {30}) (الأنبياء)، ومن مثل حقيقة التمدّد الكوني، والكون المتسع، والمنحنيات الكونية التي تعكس مصداقية الآية: (وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ {47}) (الذاريات).