كل بضع دقائق، يُسمع دوي انفجار يصم الآذان، ثم صافرة مدفعية، وبين وقتٍ وآخر يُسمع هدير شاحنة صغيرة مكدسة بالجنود تتقدَّم إلى خط الجبهة، مع آلاف النازحين والفارّين والمعطوبين من جحيم الحرب ووحشية “داعش”.
هذا هو شكل الحياة في مدينة الرقة، التي سعى “داعش” لتحويلها إلى نسختها الوحشية من مفهومه للخلافة، حيث تحاصر القوات العسكرية الأمريكية وحلفاؤها المدينة تقريباً، واستعادوا، على حد قولهم، أكثر من نصفها، فتنظيم “داعش” يتراجع، لكن ليس من دون قتالٍ عنيدٍ، يُحاصَر بين رحاه المدنيون في الجيوب القليلة الباقية تحت سيطرة التنظيم.
دوار الجحيم
في الرقة بقي أقل من 25 ألف مدني، فيما كان يبلغ عدد سكانها في السابق حوالي 300 ألف نسمة، الذين استطاعوا الفرار من ضربات جوية ونيران مدفعية وألغام أرضية مزروعة على كل طرق الخروج من المدينة يصفون الظروف المأساوية التي يعيشها الفارون والباقون.
سوميني سينغوبتا، مراسلة خارجية لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، تحكي تجربة حسن هاشم رمضان، الذي التقت به ذات خميسٍ قائظ الحرارة، في أواخر أغسطس، في حي على الحافة الغربية من الرقة.
كان حسن قد احتُجِزَ وجُلِدَ ثلاث مرات تحت حكم “داعش” لمدينته، إمَّا بسبب أنَّ لحيته كانت أقصر من اللازم، أو أنَّ سرواله لم يكن قصيراً بما يكفي، وعندما حاول الفرار عبر نهر الفرات، اقتيد تحت تهديد السلاح إلى وسط المدينة، وأخيراً، في صباح يوم ثلاثاء، في أغسطس، أُصيب شقيقه بشظايا أتت من جانب قوات تقاتل “داعش”.
حمل حسن شقيقه بين ذراعيه، أولاً إلى المستشفى، ثم إلى القبر، بعدها مباشرة هرب: “كل ما كنت أفعله في الأيام الأخيرة هو نقل الجرحى إلى المستشفى أو دفن الموتى”.
حسن واحد من عشراتٍ وَصفوا شكل الحياة في الأيام التي تشهد انحسار عاصمة “الخلافة”، وكغيره ممن نجحوا في الخروج من الرقة تظهر في أعينهم نظرة المس والخبل، وتثير الذكريات، حلوها ومرها، حزنهم.
كانت خولة الخلف، وهي خياطة، تسكن بالقرب من دوار النعيم، الذي اعتادت العائلات التنزه عنده وقت الغروب، وتصدح مُكبِّرات الصوت فيه بأغاني المطربة اللبنانية فيروز، أما الآن، فلا يمكنها التفكير سوى في الرؤوس المُثبَّتة على أوتاد هناك. ومن بين أولئك الذين قُطِعت رؤوسهم قريبٌ لزوجها، كان يعمل إماماً لأحد مساجد المدينة وتحدَّى مراسيم “داعش”.
خولة تُعلِّق بأسى: “لم يعد يُسمَّى دوار النعيم. أصبح يُسمَّى دوار الجحيم”. فعلى مدار عام، تنقَّلت هي وأسرتها من بلدةٍ لأخرى “أتمنَّى لو كُنَّا متنا في 2010 بدلاً من تعرُّضنا للإهانة بهذا الشكل”.
رحلة الخوف
أثناء رحلةٍ قامت بها المراسلة، استمرت ستة أيام من المنطقة الكردية في العراق إلى شمال شرقي سوريا. كان الهاربون يعيشون في خوفٍ وشكٍ، إما على طول الطرق المفخخة التي تتفرَّع من وسط المدن، أو في معسكر للعبور على بعد ساعتين ونصف الساعة إلى جهة الشمال، أو راقدين على أسرَّة المستشفيات على مسافةٍ أبعد شمالاً، منهكة أجسادهم.
في حي يقع غربيّ الرقة، استلقت فوزة حميدي وهي تصرخ ألماً على حشيةٍ فوق أرضية منزل شقيقتها. حاولت فوزة الخروج من الرقة قبل أسابيع، لكن امرأة كانت تسير أمامها خَطَت على لغمٍ أرضيٍ وماتت فوراً. اخترقت الشظايا ظهر فوزة ورجليها، وأطلق عليها أحد مقاتلي “داعش” النار، ثم جرُّوها إلى سجنٍ مؤقتٍ، كانت محظوظة لأن ضحايا الألغام الأرضية يُدفنون على عجلٍ هناك، ورائحتهم لا تزال تزكم أنفها.
جاءت امرأتان إلى المنزل لترويا قصتيهما، إحداهما قطع “داعش” رأس زوجها جزاء مساعدته عائلة مسيحية على الفرار، وكشفت الأخرى عن تورُّم يدها بسبب قيام رجلٍ من “داعش” بكسر معصمها بظهر مسدسه، كانت كل جريمتها الظهور في السوق دون نقاب.
وفي الخارج، قال شاب: إنَّ والده قد قُطِع رأسه جزاءً للتآمر للانضمام إلى مليشيا تقاتل “داعش”، كان يعرف الرجل الذي فعل تلك الفعلة، فقال له أحد الجيران: “لِم لا تقتله؟” فرد عليه: “دعه يخرج من المدينة وسأفعلها. سأذبحه”.
وجهك ليس ملكك
الرجال القادِمون من مناطق “داعش” إلى داخل مخيم عبور اللاجئين في مدينة عين عيسى التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، والتي تبعد ساعتين ونصف الساعة بالسيارة شمالي مدينة الرقة، أول الأوامر التي يجب عليهم تنفيذها هي الذهاب إلى محل حلاقة ذي سقفٍ صفيحي.
على بابه يجلس أبناء العم عبد الله، وهم رجال طوال القامة، عريضو المنكبين، ذوو لحى غير مرتبة، على كراسي واحد تلو الآخر. فرُّوا من دير الزور، التي صرح الجيش السوري أنَّه كسر هذا الأسبوع حصاراً كان “داعش” يفرضه عليها.
الرجال تركوا زوجاتهم وأطفالهم وراءهم، لأنَّه كان من المستحيل بالنسبة للأسرة أن تسير طوال الليل، محمود عبدالله (38 عاماً) سائق شاحنة يصف حالته وقت الفرار قائلاً: “كنتُ أبكي، وكانت زوجتي تبكي”.
محمود احتفظ بشاربه، لكنَّه قَصَّ شعر رأسه، أمَّا ابن عمه خَلَّاف، فقد قصَّ شعر رأسه وشاربه، حيث إنَّه لم يحلق منذ 6 أشهر، تطبيقاً لمراسيم “داعش” هناك كنتُ أفعل ما يطلبونه.
الشاب علي، الذي يرغب في الاحتفاظ بلحية رفيعة، لا يزال مُحتفِظاً بشعره المُهدَّب وفقاً لقواعد “داعش”، علق ساخراً: “حتى وجهك ليس ملكك. إنَّهم يريدون التحكُّم فيك”.
بين الجنة والنار
تنتهي الحال بالعديد من المصابين الهاربين من الرقة في المستشفى بمدينة تل أبيض، التي تبعد ساعتين بالسيارة شمالاً، وهي المنطقة التي كان “داعش” في السابق يحتجز فيها سجناءه داخل قفصٍ في المنطقة الرئيسة المزدحمة بالمرور.
فقد حذَّرت منظمة أطباء بلا حدود، من أنَّ كثيراً من المصابين قد يكونون عالقين داخل المدينة، وعاجزين عن المرور عبر القنطرة، وعند وصولهم، تكون جروحهم ملوثة، ويكون إنقاذ أعضاء أجسادهم المصابة مهمة أصعب.
يجد بعض المصابين الناجين في العبور من الجحيم وجه الطبيب محمد أحمد صالح، المدير السابق للمستشفى الحكومي في الرقة، مألوفاً، فقد عمِل لأكثر من عام هناك تحت حكم “داعش” في ظروف صعبة جداً: “كانت أسلحتهم دوماً مُوجَّهة إلى رؤوسنا”، ومثل الكثير من سُكَّان الرقة، كانت الحيرة مرتسمة على وجهه، شعرٌ رمادي متطاير، ولم تكن لحيته قد حُلِقَت منذ يوم، أما عيناه فكانتا حمراوين.
يتذكر الطبيب تلك الفترة قائلاً: “قد تُقطَع رأسك في أي لحظة، وقد حاولت مناقشة أمور معهم، لكنَّهم لا يؤمنون بشيءٍ بخلاف أفكارهم”.
وعند مدخل المستشفى، كانت تجلس سيدة شابة فوق نقَّالة، وساقها المكسورة مُثبَّتة بدعامة معدنية، وكانت هذه السيدة موجودة داخل إحدى الخيام على ضفاف الفرات، حينما وقع قصف جوي.
وهناك أطفال في كل غرف الإنعاش تقريباً، فهم في أغلب الأحيان يكونون أول من يكتشف القنابل المنزلية الصنع، في الألعاب، أو أباريق الشاي، أو تحت السجادة، ومن بينهم جودي التي تبلغ 6 سنوات، تجلس مُعتدلةً في سريرها، وكان ظهرها وبطنها مصابين بشظية ناتِجة عن لغمٍ أرضي، في حين لقي أشقاؤها الثلاثة حتفهم.
وتجمَّع الأطباء حول فراشٍ آخر كي ينقلوا أخباراً لرجلٍ يستفيق بعد إجراء عملية جراحية، أخبروه أنَّ زوجته لقيت حتفها حينما كانوا يفرُّون من الرقة، وأنَّهم قد بتروا كلتا ساقيه، الخبر الجيد الوحيد أنهم تمكنوا من إنقاذ حياة ابنته ذات الخمس سنوات، النائمة في الفراش المجاور، لكن ساقها اليسرى مكسورة.