إعداد: هيئة الدعاة والعلماء بألمانيا
(المقدِّمة الشرعية)
ثمّ أمّا بعد.. أيها الإخوة المؤمنون..
انقضى عيدُ الأضحى المبارك، وقد دَهمَتنا خلاله أنباءُ المآسي المتجدِّدةِ، التي يقاسيها أشقاؤنا المسلمون من الروهنجيا، نشهد جميعاً موجةً جديدةً من العدوانِ السافر، والجرائمِ الوحشية، والفظائعِ المرعبة، التي تنفطرُ لها القلوب ويندى لها جبينُ الإنسانية.
مئات الألوف يُقاسون المطاردة عبر القرى المشرّدة، وعشرات الألوف يواصلون النزوح كلّ يوم نحو بنغلاديش في ظروف مأساوية مرُعِبة وقد لا يجدون باباً مفتوحاً لهم للنجاة. يسيرون أيّاماً بلياليها من قراهم المدمّرة، يختبئون بين الأدغال الموحِشة، يَعبُرون جبالاً وأنهاراً مع متاعٍ قليل وزادٍ شحيح، يجتاحُهم الجوعُ والمرضُ في دروبٍ قاسيةٍ تتفرّق بهم، يفرّون من الأذى إلى الأذى، ومن القتلِ إلى البؤسِ والفاقةِ والحرمان.
وتتدفّق الصورُ المرعبةُ والمقاطع المأساوية من الميدان، والتقارير الموثّقة عن هذه الوقائع تملأ الدنيا وتقرَعُ الضميرَ الإنسانيّ، وفيها تفاصيلُ مذهلةٌ عن أطفالٍ يهيمون على وجوهِهم عبر الحدود؛ بعد أن عاشوا الفظائع وذاقوا من العذاب والترويع والترهيب أصنافاً وألوانا. نساءٌ وشيوخٌ ومرضى ومصابون تُركِوا وحدهم في موتٍ بطيء؛ بعد أن أتى القتلُ الوحشيُّ على ذويهم، ولا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله العليِّ العظيم.
اللهم إليك نلجأ وبرحمتك نستغيث؛ إنّ أشقاءنا في ميانمار مُستضعَفون في الأرض، يُسامون سوء العذاب، قتلاً وتعذيباً وتنكيلاً واضطهاداً وتشريداً، أحاط بهم طغيانُ العسكرِ الذين عَلَوْا واستَكبَروا، وحاق بهم طغيانُ الكهنة الذين تألّهوا في الأرض وأطلقوا أنيابَ أتباعهم لتنهشَ الأبرياء، اللهم إنّ البغيَ قد استفرد بأشقائنا، والعدوانَ قد استبدّ بهم، في غفلٍة من أمّة الإسلام؛ ولم يجدوا من العالم نُصرةً ولا عوناً.
ترَكَ العالمُ شعبَ الروهنجيا وحدَه لينهشَه استبدادٌ عسكريّ، وكهنوتٌ فاشيّ، وعصاباتٌ متطرِّفة، وعقيدةٌ عنصرية، وإرهابٌ مُنظّم. ولا ريبَ أنّ ما يجري في ميانمار من إرهابٍ وترويع؛ هو اختبارٌ للعالم، وامتحانٌ للضمائر، وتمحيصٌ للمواقف، فالحقوقُ لا تتجزّأ حسب هوية الضحايا، والمبادئ لا تنفصم عُراها طبقاً لألوان المعتدين، ولا يُعقَل أن يكون في عالمنا دمٌ أرخص من دم، وأرواحٌ أزهدُ من أرواح، وحقوقٌ تُداس وأخرى تُحفَظ، وكرامةٌ تثورُ لها الحميّة وغيرها تُهدَرُ وتُستبَاح.
لقد غضّ العالمُ النظرَ طويلاً عن هذه المأساة المزمنة؛ التي بلغَت اليومَ مَبلغَها من الظُّلمِ وأوجها من التعسّفِ وذروَتها من الفتك، إنّ الروهنجيا في إقليم آراكان الواقع اليوم في بورما أو ميانمار، هم شعبٌ مسلمٌ أصيل غير طارئ، شعبٌ لم يُعترَفْ به في بلادِه، فأنكر الطغيانُ وجوده، وحرمه الاستبدادُ المواطنةَ وحقَّ الإقامة، وصادر أملاكه، وطاردَه في موارد رزقه ولقمة عيشه، وداسَ حقوقَه وكرامَته، وعمَدَ إلى استئصالِه والفتكِ به، وباشر اجتثاثَه من فوقِ الأرض، ولم يتورّع في مسعاه هذا عن سَحقِ القيم ودَوْسِ الإنسانية وانتهاكِ الحُرُمات والإسراف في الفظائع.
تَطفَحُ ميانمارُ باضطهادِ المسلمين، وفِتنتهم في دينهم، ويستبدّ بها تطرّفٌ كهنوتيّ بوذيّ، يقوده غلاةٌ عنصريون، يمرقون من الإنسانية والأخلاق والمبادئ والشرائع، وما نَقَموا منهم إلاّ أن يؤمنوا باللهِ العزيز الحميد.
وما كان لهذه الفظائع التي نشهدها اليومَ أن تستمرّ عقوداً متواصلة وأن تتلاحقَ عهوداً مديدة؛ لولا السكوت الشائن عنها في عالَمٍ لم يشأ أن يُبصِرَها، فاجترأ البُغاةُ على التمادي، وأسرفوا في القتل والترويع والمطاردة، وتوسّعوا في تحريق البيوت والمساجد وتشريد القرى والبلدات، هانئين بحصانتهم من المساءلةِ وأمانهم من العِقاب.
لقد توعّد الله تعالى أربابَ الظُّلمِ والبَغي بعذابٍ أليم، وقد جاءت قَصصُ السابقين حافلةٌ بالدروس والعِبر عن سوء العاقبة، ونجدُ في قصّة أصحابِ الأخدودِ مشاهدَ الفتك الوحشيّ، التي كان لها أن تنتصبَ للبشريةِ جميعاً درساً تحذَرُه وعظةً تدركها، بأنّ الطغيان وخيمُ العاقبة، وقد جاء في شأنهم قرآنٌ يُتلَى إلى يومِ الدين، قال تعالى: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)). (سورة البروج)
أيها الإخوة..
إن فرَحِ الطغاةُ والمعتدون والظالمون بانطلاق أيديهم في سفك الدماء وإهلاك الحرثِ والنّسل، وحسبوا أنهم قد أفلَتوا من محاكمِ الدنيا وعدالةِ الأرض؛ فما يصنعون مع عدالة الآخرة وأينَ مفرُّهم من الواحدِ القهار، والله شديدُ العقاب؟!
وفي ما رواه البخاري ومسلم أنّ أبا موسى الأشعري قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليُملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته»، ثم قرأ عليه الصلاةُ والسّلامُ قولَه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} وفي الحديث: «اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» (رواه مسلم). وقد قال عزّ وجلّ: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42].
وإنّا لنَعجبُ أشدّ العجبِ من اختلال المعايير واضطراب القيم، فبعضُهم تقومُ قائمتُه وتثورُ ثائرتُه لظُلمٍ دون ظلم، وجوْرٍ دون آخر، فيحدِّد موقفَه حسب تصنيفِ الجاني والضحية، ويجعلُ ألوانَ الأبراجِ والمباني مكرًسة للتضامنِ مع ضحايا دون ضحايا، وكأنّ البشرَ طبقاتٌ ودرجات وليسوا إخوة وأخوات، كلّهم لآدمَ وآدمُ من تُراب.
وقد وجدنا المروقَ من القِيَمِ والمبادئ يتجسّد، مثلاً، في سياسيةٍ بارزة في ميانمار، هي “أون سان سو تشي”، التي صفّق لها العالمُ بعد أن حبَسها الطغيانُ العسكري في بلادها، فتقلّدت جائزةَ نوبل للسلام، وحازت أوسمة التقديرِ باسم الحقوق والحريات والسلام والديمقراطية، وإذ بها بعد أن تحرّرت من السجن وتمكّنت من المناصب، تُصِرّ أيَما إصرارٍ على تجاهُل الدماءِ المسفوكة من حولها، وتسويغِ الجرائمِ البشعة التي تُرتكب تحت ناظريها، ولم تُنكِر شيئاً من ذلك، بل تُواصِل انخراطَها في نظامٍ قاتل، بما يجعل تقاعسَها وتواطؤها وانتهازيَتها شراكةً في الجُرم وضلوعاً في المأساة. وفي هذا ما يفرضُ على العالم نزعَ الألقاب والجوائز ممن انتهكَ مبادئَها وخذَلَ استحقاقاتها.
أيها الإخوة..
نقفُ مع مسلمي الروهنجيا في محنتهم القاسية، نقف معهم بمُنطلقٍ إنساني، ودافعٍ أخلاقي، وامتثالٍ إسلاميّ، والتزام أخويّ، ونؤكِّد في هذا المقام، أنها ليست قضيتَنا وحدنا؛ بل هي قضيةُ كل إنسان، وشاغلُ كلِّ حرّ، ومسؤوليةُ كلِّ صاحبِ نبضٍ حيّ وضمير يَقِظ.
وإنّ مسؤوليّتَنا جميعاً في مجتمعنا، مسلمينَ وغيرَ مسلمين، أن نرفع صَوْتَنا عالياً ضد هذه المأساة المتواصلة، بكل السُّبُل المدنيّة المتاحة، وأن نحشد الجهودَ المكثفة لمناهضة العدوان السافر على شعب الروهنجيا وكبحه. ولا شكّ أنّ ما يجري في ميانمار أو بورما، لم يكن ليَجريَ؛ لو قام العالمُ بالوفاء لالتزاماته ومواثيقِه وشعاراتِه؛ أو نهض بواجبِه الأخلاقي في التحذير منه واتخاذ الإجراءاتِ الرادعةِ لوقفه. ومن هنا؛ نحثّ الجميعَ على القيام بمسؤولياته المؤكدة والتزاماته؛ نحو هذه القضية المُلَحّة التي تجسِّدُ الإرهابَ في أفظعِ أشكالِه والتطرّفَ في أشنعِ أحواله، وصور الظلمِ والبغيِ والعدوانِ التي ستعلقُ في ذاكرةِ الأجيال، كما نحثّ على تقديمِ الغوْثِ العاجلِ والمساعدةِ الطارئةِ للمنكوبين؛ الذين تُقطَع عنهم شرايين الحياة وتتقطّعُ بهم السبُلُ وتُسدّ الأبوابُ في وجوههم.
(الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج 40).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروا الله.
(بين الخطبتين)
مع اختصاص شعب الروهنجيا المسلم بالدعاء في الخاتمة.