الله سبحانه لم يوجب على العباد ما لا يقدرون على فعله ولم يحرم عليهم ما لا يتمكنون من تركه
المؤمن بقدر الله حيّ القلب راضي النفس حاضر الفكر دائم المراقبة لربه
مَن آمن بأن الله قدَّر للناس أشكالهم وألوانهم وأهليهم وبلدانهم فلن يجرؤ على السخرية من أحد منهم
الإيمان بأن الرزق مقدَّر للفرد وهو جنين في بطن أمه يجعله يطمئن أنه لن يكون لأحد غيره
مَن آمن بأن الله كتب لهذه الأمة الخيرية في الدنيا والآخرة حرص على أن يكون منها حتى يلقى الله
من الناس من يشوش ذهنه بالبحث عن حقيقة القضاء والقدر، وكيف تجري المقادير، فيزعزع إيمانه بالله، ويتيه بين الكلام وينسى العمل؛ فيكون ذلك سبباً في كسله وفتوره، وتقصيره ونكوصه، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: «من السُّنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها، لا يقال: لِمَ؟ ولا كيف؟ إنما هو التصديق بها والإيمان بها» (الدرر السنية، الموسوعة العقدية).
ومن الناس أيضاً من يظن أنه مكبل بأقدار الله فيتساءل: هل لسعيه وكدحه في الدنيا فائدة؟ وقد يقول: إن كل شيء مكتوب عليّ ومهما سعيتُ فقدر الله جارٍ عليّ ففيمَ العمل؟ ويأخذ بشطر الآية الكريمة: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا) ولا يكمل: (هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {51}) (التوبة)، لكنه في الحقيقة مقيَّد بحبائل عجزه ومضلَّل بقصور فهمه، فهل القدر يمنع العمل والأخذ بالأسباب مع تمام التوكل، واليقين بأن الجزاء من جنس العمل، وأن الله لا يضيع عمل العاملين ولا ينقص أجر المحسنين؟
وهل أحد يعلم ما كتب الله له من الأقدار حتى يقول ذلك ويتكل عليها؟! وقديماً احتج المشركون على شركهم بالقضاء والقدر، فأبطل الله حجتهم، قال تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ {148}) (الأنعام).
قال الشيخ السعدي: «فعلم أنها حجة فاسدة، وشبهة كاسدة، من عدة أوجه، منها: ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة لم تحل بهم العقوبة، ومنها: أن الحجة لا بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان، ومنها: أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة وإرادة يتمكن بها من فعل ما كلف به، فلا أوجب الله على أحد ما لا يقدر على فعله، ولا حرم على أحد ما لا يتمكن من تركه، فالاحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر ظلم محض وعناد صرف.
ومنها: أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم، بل جعل أفعالهم تبعاً لاختيارهم، فإن شاؤوا فعلوا، وإن شاؤوا كفوا، وهذا أمر مشاهد لا ينكره إلا من كابر، وأنكر المحسوسات، فإن كل أحد يفرق بين الحركة الاختيارية والحركة القسرية، وإن كان الجميع داخلاً في مشيئة الله، ومندرجاً تحت إرادته، ومنها: أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك، فإنهم لا يمكنهم أن يطردوا ذلك، بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ مال أو نحو ذلك، واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الاحتجاج، ولغضبوا من ذلك أشد الغضب، فيا عجباً كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه، ولا يرضون من أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟» (تفسير السعدي).
قضاء الله وقدره كله خير:
إن الإيمان بالقدر جزء لا يتجزأ من إيمان المسلم، وقد يكون المقدر في ظاهره خيراً، ونحسبه شراً، أو العكس، لكننا في الحالين يجب علينا الرضا دون سؤال أو إنكار أو اعتراض، مع دفع الأقدار التي نظنها شراً، ونفرّ منها إلى قدر الله أيضاً فيما نحسبه خيراً، وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فدعانا إلى الحرص على أخذ أسباب القوة والنفع لأنفسنا مع أن كل شيء مقدر علينا، فقال: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان”. (رواه مسلم).
إن المؤمن بقدر الله يتذوق طعم الإيمان إذا رضي عن أقدار ربه وعرف أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً”. (رواه مسلم)، وما عليه إلا أن يدفع ما يكرهه من القدر بما يحبه منه، وذلك بالطرق المشروعة، فيدفع المرض بالتداوي والعلاج والرقية والدعاء، ويطلب الذرية الصالحة بالزواج وحسن الأدب والتربية، ويدفع الجهل عنه بطلب العلم ومدارسته وسلوك سبيله، ويدفع صحبة السوء بالصحبة الصالحة، ويدفع الجوع والفقر بالكسب والعمل بيده وحسن التدبير والنفقة، وهكذا في كل أحواله، عليه أن يأخذ بأسباب السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
الإيمان بالقدر وأثره في تربية النفس:
إن المؤمن بقدر الله حيّ القلب راضي النفس، حاضر الفكر دائم المراقبة لربه، فإذا علم أن الله قدَّر عليه ملائكة يلازمونه ويكتبون كل ما يقول ويفعل؛ فإنه سيحاسِب نفسه قبل العمل وبعده، وإذا عرف أن خاتمته مكتوبة عند الله لا يعرف أهو من السعداء أم من الأشقياء؛ فإنه يعيش وجلاً خائفاً راجياً داعياً أن يحسن الله خاتمته، وسعى لذلك بحسن عمله وتقواه، أما إذا ابتلاه ربه فضيق عليه رزقه، أو أصابه بمصيبة، فإن إيمانه بأنها من قدر الله يدعوه للصبر والثبات والدعاء حتى ينال أجراً عظيماً.
ومَن آمن بأن الله قدَّر للناس أشكالهم وألوانهم وأهليهم وبلدانهم، فلن يجرؤ على أن يسخر من أحد منهم أو يحقره؛ إذ هو اختيار الله لهم، ولعلم يقيناً سرّ قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ {13}) (الحجرات)، وما يلبث أن يلهج لسانه بالتمجيد والتسبيح للخالق العظيم القائل سبحانه: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ {22}) (الروم).
ومَن آمن بأقدار الله علم أن منها الابتلاءات والأذى والمصائب والمحن والهموم التي تصيبه من حين لآخر، كما قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ {22}) (الحديد)، فتعامل معها بما يريد الله منه، بالصبر والاحتساب والرضا وطلب العافية منها، مع اليقين أنها خير له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابه سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابه ضراء صبر فكان خيراً له». (رواه مسلم).
ومَن آمن بقدر الله علم أن الدنيا قد كتب الله عليها الفناء وقدَّر لها الزوال، فأخذ عدته منها قبل أن تزول أو يزول هو عنها، وجعلها مزرعته للآخرة، ولم يفتتن بها وبزينتها، ولم تغره شهواتها فتصده عن سبيل الله، وقد قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ {20}) (الحديد).
ومَن آمن بأن رزقه مقدَّر له وهو جنين في بطن أمه إلى أن يموت؛ فإنه يطمئن أنه لن يكون لأحد غيره، ويجدّ مع ذلك في طلبه، فيأخذ بأسباب الحصول عليه بالطرق المشروعة، ودون أن يلهيه أو يؤخره عن طاعة الله، قال صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَّ الرُّوحَ الْأَمِينَ نَفَثَ فِي رُوعِيَ أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ، وَلَا يَحْمِلَنَّكُمُ اسْتِبْطَاءُ الرِّزْقِ أَنْ تَطْلُبُوهُ بِمَعَاصِي اللهِ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللهِ إِلَّا بِطَاعَتِهِ». (أخرجه البيهقي).
ومَن آمن بأن أجله مقدَّر لا يتأخر ولا يتقدم، كما قال تعالى: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ {34}) (الأعراف)، إذا عرف ذلك فإنه لن يخشى أحداً إلا الله، ولن يرجو نفعاً من أحد سواه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: «واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف» (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح).
ومَن آمن بأن الموت حق قدَّره الله وكتبه على جميع خلقه، كما قال تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ) (آل عمران: 185)، عمل لهذه الساعة، واستعد له بسائر الطاعات وترك المنكرات وحسن خلقه مع الناس، وسارع بالتوبة كلما أذنب ولم ينتظر حتى يأتيه الموت المقدر وهو بلا عمل أو زاد، قال تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ {10}) (المنافقون)، وقال: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ {99} لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ {100}) (المؤمنون).
ومَن آمن بأن الله كتب الجنة للمؤمنين العاملين سارع إلى الإيمان والعمل، واجتهد وصبر وجاهد نفسه أمام شهواتها، ولم يقترف الآثام والكبائر الموبقات، قال صلى الله عليه وسلم: «قال الله للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها». (رواه مسلم).
ومَن آمن بأن الله كتب وقدَّر لهذه الأمة الخيرية في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، فإنه يحرص أن يكون منها، ويقدم من نفسه خير مثال لأفرادها ديناً وعلماً وخلقاً وعملاً، ويثبت على ذلك حتى يلقى الله تعالى، بل لم تهزمه الفتن التي تحيط بها ولا المؤامرات التي تحاك ضدها ولأيقن بنصر الله وحفظه لها، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ {105}) (الأنبياء).
قال الإمام ابن كثير: «وأخبر تعالى أن هذا مكتوب مسطور في الكتب الشرعية والقدرية فهو كائن لا محالة، وذكر قول ابن عباس رضي الله عنه: أخبر الله سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض، أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويدخلهم الجنة، وهم الصالحون». (تفسير ابن كثير).
وهكذا فإن الإيمان بالقدر يجعل من حياتنا حياة آمنة مطمئنة راضية، فإذا ما حلّ بها ضعفُنا أمام أقدار الله فأصابنا الهم والحزن؛ فإن ألسنتنا تلهج بالثناء على الله بعدله في قضائه وقدره، ونقول كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ إنِّي عبدُكَ ابنُ عبدِكَ ابنُ أَمَتِكَ ناصِيَتي بيدِكَ ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فيَّ قضاؤُكَ…» (رواه أحمد، وصححه الألباني).