الهجرة من الفرد إلى الأمة!
ومن الجماعة الضيقة ذات الثقافة المضادة إلى المجتمع الواسع المهيمن بقيم الحق والعدل والرحمة.
المسلمون في مكة كانوا أفرادًا في مجتمع وسواء استخفوا بإسلامهم أو جاهروا به كانت قيم الإسلام ذاتها -وهي قيم في معظمها اجتماعية جماعية- في مكة مستخفية أو مكبوتة.
الإسلام بطبيعته دين اجتماعي لا يقتصر على العلاقة الخفية بين العبد وربه، إنَّه دين ينظِّم العلاقة بين الإنسان والإنسان، ولكل دائرة من دوائر المجتمع له فيها حقوق وعليه تجاهها واجبات، كعلاقة الإنسان مع أسرته وجيرانه وأصدقائه وإخوانه.. والإسلام يفرض الضوابط والحقوق الاجتماعية التي تصنع نظامه الخاص.. والعبادة في الإسلام ليست الشعائر التعبدية كالصلاة والصوم والحج وفقط.. فدائرة الأخلاق ودائرة المعاملات تتقاطعان تقاطعًا شديدًا مع دائرة الشعائر التعبدية، فالصلاة لن تكتمل على وجهها الأمثل إلا إذا نهت عن الفحشاء والمنكر، والصوم لا تتحقق ثمرته إلا بكف أذى الجوارح عن الغير، والحج لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال ومشاحنة، والزكاة عبادة اقتصادية اجتماعية، فالمسلم لن يُخرج زكاة ماله وصدقاته إلا إلى ناس من البشر.
كل عبادات الإسلام تصب في صالح تهذيب سلوك الفرد ومعاملاته مع المجتمع.
إنَّ قريشًا التي كانت سدنة البيت قبل الإسلام خبرت الأديان وعرفتها، ولم تحارب أو تعادي عابدًا متبتِّلاً منقطعًا إلى الله في العبادة طالما ظلّ فردًا يعبد الله عبادة فردية لا واجبات للمجتمع عليه، فعرفت كما عرفت العرب ورقة بن نوفل، وزيد بن النفل، وأمية بن أبي الصلت وغيرهم، ممن كانوا على الحنيفية أو على ديانات أهل الكتاب، فلم تنكر عليهم ولم تحاصرهم أو تعلن الحرب ضدهم، بل عاش محمد بين ظهرانيهم أربعين سنة كاملة لا يسجد لصنم، ولا يشرب الخمر، ولا يرتاد مجالس لهوهم، فما أنكر عليه منهم أحد، واشتُهر عنه بينهم أنَّه قبل البعثة يصعد جبل النور فينقطع إلى ربه في غار حراء الليالي ذوات العدد مناجيًا ربه، فلم يبالِ منهم أحد بذلك.. حتى جهر فيهم بدعوة الإسلام فخاصموه وعادوه وتخطَّفوا ضعاف المسلمين من حوله، وصدوا عنه صدودًا كبيرًا.
ذلك أنَّهم أدركوا وهم ما زالوا على شركهم، أنَّ تعاليم الإسلام تعاليم اجتماعية في مجملها، وأنَّ شخصية محمد الأمين المعتزل بعبادة ربه قبل البعثة، لا بدّ أن تتطور تطورًا منفتحًا على قيم وأوضاع المجتمع، انفتاحًا لا بد أن يؤدي إلى تغيير كبير في مسارات حياتهم.
كان المسلمون في مكة يعيشون فرادى يتلقون تعاليم الإسلام وآي القرآن المنزَّل على نبيهم، في الشعاب وفي دار الأرقم بن أبي الأرقم جهة جبل الصفا على مسافة مئات خطوات من الكعبة المشرَّفة، حيث يجتمع سادة قريش في دار الندوة قريبًا من مقر اجتماعهم.. ورغم العنت والإيذاء الشديد الذي ألحقته قريش بالمسلمين القِلال الفُرادى العُزَّل، فلم يُعرف عن اجتماعاتهم تلك أنَّهم خطَّطوا فيها لكيد بسادة قريش أو مكروا لهم أو أعلنوا عليهم حربًا بحرب، وشعار نبيهم في مرحلة مكة: بل أرجو أن يخرج من بين أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له.. إنَّ الذين يتأوَّلون تنظيمًا سريًّا ينعقد في دار الأرقم لم يأتوا على ذلك ببينة تاريخية موثَّقة تروي الأوامر والتكليفات التنظيمية التي كانت تُلقى هناك، ولا ماهية الأهداف الواضحة المحددة للتنظيم!
ومن الثابت أنَّ الفترة المكية بطولها لم يكن فيها سوى تعليم عقيدة وعبادات الإسلام، ولم يجرِ خلالها أي تخطيط سياسي أو عسكري سوى الإعداد للهجرات -إن عُدَّ ذلك ضمن الخطط السياسية- وهو تخطيط لمغادرة مكة لا للسيطرة عليها! وعرض الرسول نفسه ودعوته على قبائل العرب من الحجيج وهو عمل دعوي في الصميم!
لكنهم ظلوا يتوقون إلى ممارسة تعاليم وقيم وأخلاق وأحكام الإسلام، فكانت الهجرة إلى المدينة.. في المدينة أيضًا عايشهم المشركون من أهلها، وجاورهم اليهود في قبائلهم ودسِّهم ومؤامراتهم، لكن للمسلمين مهاجرين وأنصاراً أكثرية استطاعوا من خلالها أن يعيشوا إسلامهم.. إنّ الإسلام حياة وليس شعائر تؤدَّى أو عبادات تُقام أو أوامر تُفرض.. إنَّه حياة كاملة واسعة ممتدَّة بنَّاءة واعية.. في المدينة بنوا مسجدًا لم يكن في سعة المسجد الحرام بمكة، ولم يكن يحمل دلالته المقدَّسة عند العرب قاطبة، ولم يكن به كعبة يُحج إليها، لكنَّه كان مسجدًا حُرًا في وسط المدينة، ولم تعد الصلوات تُؤدى سرًا في الشعاب والخلوات، ولم تعد دروس رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسر بها في دار الأرقم، ولكن يجهر بها من فوق منبر هو في الأصل جذع شجرة لكنه يحمل صوته وتعاليمه إلى العالمين.. في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت آيات القرآن الكريم بالتحول الهائل في حياة المسلمين، تحوَّلوا إلى أُمَّة، فخاطبهم جل وعلا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ) (البقرة: 143)، وقال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، وتوارى خطاب الصف في القرآن الكريم مع نصر الله لهم في غزوة بدر لصالح خطاب الأمة -إذ كان خطاب الصف مقتصرًا على الحالة العسكرية- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ {4}) (الصف).
أمَّا خطاب الأُمة فهو خطاب ممتد إلى عموم مسلمي الأرض التي ما كان لها أن تتحقَّق إلا بالهجرة المباركة.
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.