تقدم لخطبتها من أبيها وهي في ريعان شبابها، كانت تعلم أن ميثاق الزواج إنما هو «ميثاق غليظ»، كما وصفه الله تعالى في كتابه، وكانت ترى ذلك في حياة أمها وأبيها؛ إذ قدما لها مثالاً رائعاً في حسن العشرة بينهما.
أما هو فقد كان –وقتها- ما زال في بداية حياته العملية يكاد لا تكفيه بضعة جنيهات يتقاضاها من عمله المتواضع، كما كان يدرس في الوقت ذاته، وقد أراد أن يعفّ نفسه بالزواج منها لأخلاقها وأدبها وأسرتها الطيبة، رآها ورأته ونظر كل منهما للآخر، وكان القبول من الزوج والحمد لله.. أما هي، فقد استأذنها الأب فكان إذنها صمتها، وكانت من أعظم النساء بركة حيث خفت مؤونتها على الزوج وقل مهرها، ولم تقف حالته المادية البسيطة عقبة في طريق موافقتها فقد توسمت فيه صلاحاً وخلقاً.
علت أغاريد الفرح، ورفرفت طيور الحب تحمل بين تغريدها أماني كثيرة لعروس طاهرة في بداية حبها الحلال الطاهر، تأمل أن يكون حباً أبدياً في الدنيا والآخرة، وأن تهرم هي وزوجها في ظلاله، ويَشِيخا معاً على وسادة واحدة.
ومرت بهما الحياة بحلوها ومرها، رزقا فيها بالأولاد، أعانته على إكمال دراسته، والترقي في وظيفته، كانت تبيت في بعض الليالي طاوية جائعة لتطعم أطفالها، وتعمل أعمالاً يدوية تفوقت في صنعها، وتبيعها للصديقات حتى توفر لزوجها ثمن كتبه ومواصلاته، تغاضت عن كثير من رغباتها المشروعة، فالمصاريف كثيرة والحاجات أكثر من الجنيهات! وسارت بهما سفينة الحياة شراعها الحب والتفاهم، وهي مع ذلك تتلاطمها أمواج الحاجة والعوز، لكنها كانت الربان والقبطان رغماً عنها مع انشغال زوجها بعمله ودراساته العليا التي شجعته هي على إتمامها.
وأخيراً أثمرت جهودها وقد تدرج زوجها وترقى في وظيفته مما اضطره للسفر إلى بلد آخر، فانتقلت معه راضية مشجعة تاركة أهلها وصديقاتها ومسقط رأسها! وبدأت الدنيا تضحك لها وقد استغنى زوجها بفضل الله أولاً ثم بجهود تلك الزوجة الصالحة الصابرة؛ فاستشعرت حلاوة الصبر ولذة العطاء، وأنه حان لها أن تقطف ثمار هذا الصبر الطويل الذي امتد سنين عدداً، لقد آن لها أن ترتاح وتعيش وتجدد حُب السنين هي وأولادها مع هذا الزوج الذي قاسمته حياته، وشاركته نجاحه، ورعت أولاده وربتهم خير تربية، فهل كان لها ما أرادت؟ وهل تحقق لها ما تمنت وأمَّلت؟
المفاجأة
ومر الوقت عليها في أرض الغربة، أما هو فقد ازداد اهتمامه بمظهره، وفاحت منه روائح العطور المميزة، فظنت أنه تفرغ لها ليعوضها ويكافئها، وشعرت في نفسها بالحاجة إلى أن تلقي بأثقال حملها على كتف زوجها، وأن يقاسمها مسؤولية البيت والأولاد بطريقة عملية أكثر فاعلية بعد أن شارفوا على البلوغ؛ أن يقلل من أسفاره ويجلس معها ومعهم، أن يحاورها ويحاورهم، أن يخرجوا جميعاً في نزهة للترفيه عنهم، أن يساعدهم في تحصيل دروسهم وعمل واجباتهم، أن يستمع إلى ما يقابلهم من تحديات العصر المتعددة ويكون عيناً لهم ناصحة، وقلباً حانياً يحتويهم في هذا الوقت المتقلب، أن يبثها حروف حبه وقصائد غزله وكلمات غرامه التي كادت تختفي من حياتها.
لكنه لم يفعل! حاولت أن تنبهه لذلك أكثر من مرة، وأن تلفت نظره لدوره المهم في هذه المرحلة، وهو في كل مرة يتعلل بأشغاله ويتهرب بأعماله وبلقمة العيش التي يجلبها لها ولهم، فتسكت وتستكين، بل إنها تصدقه وتدعو له وتشفق عليه.
تكرر سفره يوماً بعد يوم بحجة العمل، وكثر خروجه من بيته، وزاد تأخره في الليل، وطالت جلسته مع الهاتف وشبكات التواصل، وكلما احتجّت عليه تعلل بمشقة عمله، وكلما عاتبته تهَرَّبَ بمشاغله!
وفي ليلة حالكة من ليالي الشتاء الباردة وقد ظنها نائمة، سمعته يهاتف أحداً بصوت خافت، يبث غرامه وحبه، ويعتذر بشدة عن بُعده، ويهمس بكلمات لم تصدقها: “سأتصرف يا حبيبتي من أجل إشهار زواجنا، نعم فأنا مثلك أريد ذلك، فقد مللت الاختفاء وهذه السرية، سأعوضك عن هذه الأيام، أريد أن نخرج ونتنزه معاً، أن نقضي إجازتنا معاً.. ماذا تقولين؟ أم الأولاد؟ لا تحملي هماً يا حياتي، إنها نائمة لا تدري بشيء ولن تشعر، اطمئني فإنها قد تظل معي مجرد أمّ للأولاد وحاضنة لهم”!
ازدادت دقات قلبها وكادت أن تخرج إليه تفاجئه كما فاجأها، لكنها تماسكت وهي تسمع ما لم يكن في حسبانها: “ماذا تقولين؟ أطلقها؟ (يضحك) طلاق؟ نعم سأطلقها، إنها مسألة وقت فقط، فاصبري قليلاً عليَّ حتى أتدبر أمري، وأطلقها في الوقت المناسب”!
دارت بها الدنيا وقد ظنت أنها ضحكت لها، لكم شعرت أنها خدعت وهي لا تدري، وأن أعماله الكثيرة، وأسفاره المتكررة في عمله الجديد لم تكن إلا هذه المرأة التي تزوجها سراً! وأن حياتها معه بعد ترقيه وسفره كانت كذبة كبيرة، بعد أن تأكدت أن زوجها الحبيب قد جافاها، وأنه يوشك أن يطير منها بعد أن قوي جناحه واشتد ساعده فظن أنه استغنى عنها أو أنها لا تصلح له.
علامات استفهام
وفي ليل الغربة الطويل، وبعيداً عن الأهل والزوج الذي طار، وبين أحضان أطفالها البريئة كانت هي الآن، لم تكن تريد من الدنيا غير بيت صغير يضمها، تعبد فيه ربها، وتعيش فيه حياتها كزوجة صالحة تحسن التبعل، وأم مربية تتقن التربية، أحبت زوجها بصدق، وصبرت معه بحب، وبعدت عن أهلها من أجله لتكوّن معه أسرة صالحة مستقرة، وبيتاً هانئاً قائماً على التقوى، وذرية مؤمنة تكاثر بها يوم القيامة في أمة النبي صلى الله عليه وسلم.
حاولت إرضاءه بكل ما تستطيع، وظلت تدعمه وتسانده حتى استغنى، لكنها في هذه الليلة من ليالي الشتاء الباردة، بردت عواطفها تجاهه، ومع قسوة غربتها عن أهلها قسا قلبها على هذا الزوج الذي باعها.
وتساءلت في نفسها: أهذا هو العمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم “استوصوا بالنساء خيراً”، وقد كان صلى الله عليه وسلم أوفى الناس مع زوجته خديجة في حياتها وبعد موتها، كما كان أعدل الناس مع زوجاته جميعهن؟!
فهل هذا هو جزاء إحساني إليه؟ أهكذا تكون مكافأتي؟ يشهد الله أنني لست ضد الزواج من ثانية بل وثالثة ورابعة فهذا شرع الله الذي آمنتُ به وما زلت بحمد الله به مؤمنة، لكني أتساءل: هل ما فعله هذا الزوج معي وما يفعله بعض الأزواج مثله من التنكر وعدم الوفاء لمن بذلت وصبرت وأعانت وآزرت، بل وجاعت وسهرت، أيكون رد الجميل بالهجر أو الطلاق، أو بالظلم وعدم العدل، أم بالكذب والتعسف في طلب الحق؟ حتى لو انطفأ مصباح الحب في قلب الزوج فقد أمره تعالى بحسن العشرة وقال: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً {19}) (النساء).
فهل من حسن العشرة أن يكذب الزوج على زوجته أمّ أولاده فيوهمها أنه في العمل من أجلها ومن أجل أولادها، وأن سهره وغيابه عنها في سبيل ذلك، وتجلس هي تدعو له بالتوفيق، بينما هو يمارس حياته سراً مع زوجة أخرى يحيف معها على حق زوجته الأولى؟
وهل من حسن العشرة أن ينشغل الزوج بزواجه ويضيع حقوق أولاده من حسن الرعاية والأدب والتربية، ولا يجعل لهم نصيباً من وقته؟
وهل من حسن العشرة أن يقتسم الزوج مصروف الزوجة الأولى هي وأولادها مع زوجته الثانية بحجة أنه لا يملك؟
وهل من حسن العشرة أن يقضي معظم وقته مع الثانية بينما يطلب من الزوجة الأولى التضحية من أجله، بل وأحياناً يأخذ مما طبخته بيدها لبيته الثاني؟
هل من حسن العشرة أن يطلقها غيابياً دون أن تدري من أجل إتمام زواجه الثاني بطريقة رسمية لاستقدام الزوجة، أو يجبرها على الانفصال الصوري حتى يحصل على معونة حكومية للإنفاق منها عليها؟ (وهذا يحصل في بعض الدول الأوروبية التي يمنع فيها التعدد)، وهل من حسن العشرة أن ينام في غرفة منفصلة عنها ويتركها وحيدة في سرير الزوجية؟
إن حال هذه الزوجة كحال عامل في مصنع قام بواجبه وأتقن عمله وبذل فيه جهده، فجاء صاحب المصنع فكافأه بالطرد والإبعاد!
إن كل إنسان مسؤول أمام الله عن أداء ما عليه من حقوق، وقد يغفر الله التقصير في حقه ويسامح، أما حقوق العباد فهي لهم واجبة الأداء في الدنيا وإلا ففي الآخرة.
وإن عقد الزواج ميثاق غليظ أخذته الزوجة على زوجها منذ عقد عليها، قال تعالى: (وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً {21}) (النساء).
قال الزمخشريّ: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوماً قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟
فهل من شرع الله تعالى أن تُترك الزوجة الأولى كالمعلقة، أو أن يجازيها الزوج على تضحيتها فيطلقها كمكافأة لها على نهاية خدمتها له؟!