لعلها مفارقة طريفة أن تنجب قرية نجريج مركز بسيون محافظة الغربية اثنين من المشاهير؛ الأول الشيخ محمد عياد الطنطاوي المولود في أوائل القرن التاسع عشر (1810 – 1861م)، ومحمد صلاح غالي؛ لاعب كرة القدم الدولي في أواخر القرن العشرين (1992- ..م)، فكانت شهرة الثاني الفائق في اللعب أقوى وأعمّ من شهرة الأول الذي كان صاحب ريادة طيبة في خدمة العربية وآدابها.. إنها مفارقة عطاء الرأس الفكري وحركة القدم في الملاعب.
الطنطاوي من أبناء الأزهر الشريف، وكان ميدان تفوقه اللغة؛ لغته الأم واللغة الأجنبية (الفرنسية والروسية)، وامتد جهده الفكري والأدبي في خدمة اللغة العربية داخل البلاد وخارجها، واستيعاب اللغة الأجنبية وعياً ودراسة وتأليفاً وترجمة.
حياة الطنطاوي تؤكد دور الأزهر وعلمائه في النهضة الحديثة التي أضحت ضرورة في عهد محمد علي حين بعث أبناء الأزهر الشريف إلى أوروبا لدراسة العلوم المختلفة ونقلها إلى مصر، فأدوا مهمتهم وعادوا إلى البلاد ينشرون ما حصلوه من علم وفكر.
هناك من يحاول طمس دور الأزهر في النهضة الحديثة، ويقلل من قيمة جهوده الوطنية والإسلامية والإنسانية، وخاصة في مجال الآداب والفنون الرفيعة، مع أنه ظهر من علمائه ورجاله المعلمون والخطباء وقادة الفكر والصحافة، والأدب شعراً ونثراً، وزعماء الجهاد الوطني ضد الاستعمار والاستبداد والفساد، ورواد العمل الخيري والاجتماعي، وكانوا ألسنة ناطقة بخير الأمة العربية والإسلامية في كل مكان يحلّون به.
إن تجاهل هذه الجهود الأزهرية التي كان الطنطاوي في المقدمة من روادها، أو التهوين من شأنها يصب في اتجاه تحييد الأزهر بتجاهل جهود رجاله وعلمائه، وحصره في دائرة بعيدة عن الثقافة الحديثة، والحركة السياسة والاجتماعية المعاصرة.
لقد حاول «د. براون»– وكان أستاذاً في مدرسة الطب المصرية على عهد محمد علي- أن يجرد الأزهر من كل فضل حضاري في مضمار التقدم الفكري، فكتب إلى سكرتير الجمعية الآسيوية يحدثه عن انبثاق النهضة العلمية في مصر، فجعل من نفسه- كما يزعم- مشعل التوجيه العلمي مع من وفد من أوروبا للتدريس في مصر، أما علماء الأزهر الذين تعلم على أيديهم وقاموا بتصحيح مؤلفاته العربية وتنقيحها، وعاونوه في تحديد المصطلحات وتعريفها، فلا يعرفون شيئاً ما.
نسي «براون» أن الشيخين محمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر الطوانسي هما من علّماه اللغة العربية حتى برع فيها، و»كان زميلاً لرفاعة الطهطاوي، وحضر مجالس الشيخ حسن العطار مع العلماء في منزله، وخاضوا في مسائل كثيرة كانت موضع التفاته، وإذا كان «براون» قد اعترف بفضلهما فهما لم ينشأا من فراغ، لا استثناء من القاعدة، بل هما من تلاميذ الشيخ حسن العطار، وبهديه استطاعا أن يتفرغا لعلوم كثيرة، وأن يحتذيا رفاعة الطهطاوي في مجالات مسبقة» (السابق، ص 478).
لقد اختير الشيخ الطنطاوي واعظاً دينياً في جيش إبراهيم باشا، ولما عاد إلى مصر شارك في تحرير الكتب العلمية بمدرسة الطب، و»كانت مدرسة أبي زعبل قد أنشئت، وأخذ النَّقلة في ترجمة كتب الطب وغيرها، فعُيّن مصححاً، وأعجب به «د. براون» وارتاح إلى أدبه، فقرأ عليه «كليلة ودمنة»، ولمع نجمه في التحرير والتصحيح، وامتاز بين زملائه بمعرفة المصطلحات العلمية العربية، فكانوا يرجعون إليه في تحقيقه ويطلقون عليه «مصحّح كتب الطب»، وكانوا إذا أرادوا أن ينقلوا كتاباً في أوائل إنشاء مدرسة الطب وجدوا مشقة في إيجاد الألفاظ العربية الملائمة للألفاظ الإفرنجية في الكتب المترجمة، فيرجعون إليه في تحرير الكتب» (د. محمد كامل الفقي، الأزهر وأثره في النهضة الأدبية الحديثة، ص78).
وهذا الدور الذي نهض به الطنطاوي يؤكد أهمية ما قام به هو وزملاؤه الأزهريون من المصحّحين والمترجمين في خدمة اللغة العربية وتعريب المصطلحات الأجنبية، فكأنهم قاموا بما نسميه الآن التحقيق العلمي للمخطوطات، والنقل عن الكتب الأجنبية، والمطابقة بين المصطلحات المنقولة ونظائرها في اللغة العربية.
وقد خصص «كراتشكو فسكي» كتاباً عن حياة الشيخ محمد عيّاد الطنطاوي، نشره عام 1929م، وترجمته السيدة كلثوم عودة، وطبعه المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بمصر عام 1964م.
لقد طلبت السفارة الروسية من إسطنبول أستاذاً بمعهد الدراسات العربية في سانت بطرسبرج، فوقع الاختيار على الشيخ الطنطاوي، فنهض بما عهد إليه على أكمل وجه، وظل محافظاً على زيّه الأزهري وسمته الشرقي، يقول عنه أحد معاصريه من الروس: إنه رجل وسيم، يرتدي حلة شرقية، وعمامة بيضاء، وله لحية فاحمة سوداء، وعينان براقتان، ووجه متوقد الذكاء، وهو يسير الهوينى شامخ الرأس.
ومن المفارقات أن المستشرقين الذين وفدوا على مصر في عهد محمد علي للعمل في وظائف مختلفة، وكانوا يبذلون جهوداً حثيثة ضد الثقافة الإسلامية، تأثر بعضهم بالشيخ الطنطاوي، مما قلل من سرعة عدوانهم على هذه الثقافة، ونظراً لحاجتهم تعلم العربية بدأت علاقه الشيخ بهم، ومنهم: الفرنسي «فرنيل»، الذي قدم إلى مصر عام 1831م، والفرنسي «بايرون»، الطبيب بقصر العيني، والألماني «فايل»، مدرس الآداب الشرقية في جامعة هايدلبرغ، والألماني «برونر»، والإنجليزي «إدوار وليم لين»، صاحب كتاب «المصريون المحدثون»، ومترجم «ألف ليلة وليلة»، وكان من تلاميذ الشيخ عياد الطنطاوي من المستشرقين الروس «موخين»، و»فرين».
والطنطاوي من أوائل من كتبوا الرحلة في العصر الحديث «هدية العاقل» قبل رحلة رفاعة «تلخيص الإبريز»، ولكنها لم تطبع ولم يكتب لها الذيوع.
أيضاً، فإن رفيقه الشيخ الطوانسي كتب رحلة «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان» يصف رحلته إلى الواحات والسودان، وقد طبع في باريس مع ترجمة فرنسية قام بها «سيديليو»، وكتب عنها بالمجلة الآسيوية.
وللأسف تتجاهل الرسائل الجامعية هاتين الرحلتين، تبدأ برفاعة، وتقفز إلى عبدالله فكري والشدياق، تاركة ما كتبه هذان الرائدان (انظر: النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين،ج2، ص481).
لقد ألف الطنطاوي في مصر مجموعة من الكتب في العقائد، وفي قواعد اللغة، والبلاغة، والعروض والقوافي، إضافة إلى الجبر والميراث والحساب، وأسماء الناس والخيل الأصيلة وتدبيج الشروح والحواشي على مصنفات غيره، وألّف بالفرنسية «أحسن النخب في معرفة لسان العرب»، وهو كتاب أكسب الطنطاوي شهرة واسعة في كل أوروبا، كما أنشأ قاموساً عربياً فرنسياً طبع في قازان عام 1849م، وله 3 مقالات باللغة الفرنسية، كما كتب بالروسية مجموعة حكايات وملاحظات في تاريخ الخلافة والشرق الإسلامي، وقواعد اللغة العربية، وترجم إلى الروسية مجموعة أمثال عربية، وترجم «تاريخ روسيا الصغير» لـ»أوسترالوف».
وفضلاً عن ذلك فله كتاب «تحفة الأذكيا بأخبار بلاد الروسيا»، ويعد من أهم مؤلفاته إن لم يكن أهمها جميعاً، ويروي فيه رحلته من القاهرة إلى سانت بطرسبرج، ويتناول روسيا وأحوالها.
لقد كرمه الروس وعيّنوه مستشاراً في الدولة الروسية، وقلّده القيصر وسام «ستانيسلان» ووسام «القديسة حنة»، كما قلده القيصر خاتماً مرصعاً بالألماس الغالي، وجعلت الدولة الروسية مدفنه لديها أثراً تاريخياً ضمن آثارها التاريخية.
هذا التكريم الروسي للشيخ محمد عياد الطنطاوي يطرح علينا سؤالاً مهماً: ماذا فعلنا نحن أهله وبلده من أجله؟
أتصور أن إجابة السؤال يمكن أن تتحقق في النقاط التالية:
أولاً: طبع كتاباته العربية، وكتاباته بالفرنسية والروسية بعد ترجمتها إلى اللغة العربية، مع تعريف بها وإلقاء الضوء على محتوياتها.
ثانياً: التعريف بالرجل من خلال ما كتب عنه، مع نشره على القراء في مصر والعالم العربي.
ثالثاً: توجيه الباحثين والكتّاب إلى دراسة الفترة التي بدأت فيها النهضة الحديثة، واستكمال ما أشار إليه جرجي زيدان حول هذه المرحلة، لإنصاف الأزهر وعلمائه، وإبراز الجهد الذي قام به، فضلاً عن إزاحة التعتيم الذي فرض على دور الأزهريين في المجالين الأدبي واللغوي.
إن الشيخ محمد عياد الطنطاوي يعيدنا إلى دائرة الاهتمام بالثقافة الإسلامية المظلومة من أبنائها قبل أعدائها، وهو فأل طيب نستبشر به خيراً إن شاء الله.