تلك هي الحياة تمضي بنا دون أن نشعر أنها تسرق أعمارنا وأيامنا، تجري بنا إلى الأجل المجهول دون توقف أو انتظار، إلى حياة لا ينفع فيها سوى العمل الصالح، وفي كل لحظة يفارقنا مَنْ رسموا كثيراً من البسمة على وجوه الفقراء والضعفاء، وغرسوا الأمل في أجيال ماتت في قلوبها الحياة.
في مثل هذا الشهر (يونيو) رحل الكثير وغيرهم ممن لا نعرفهم، لكن الله سبحانه يعرفهم، رحل عنا أناس كان لهم في القلوب بصمة؛ أمثال د. أحمد الملط، والعم عبدالله يوسف بودي (الذي يعد من رواد العمل الخيري بالكويت، وأحد مؤسسي جمعية الإرشاد)، والشيخ فتحي يكن، والعالم علي طنطاوي، والمجاهد محفوظ نحناح، وقائد معركة الفالوجا عام 1948م معروف الحضري.. وغيرهم كثير.
حامد الياقوت.. محامي المظلومين
حامد محمد عبدالله الياقوت، واحد من الذين كرّسوا حياتهم في الدفاع عن المظلومين، ونصرة الحق، وإظهار الحقائق جلية أمام العيان.
الياقوت الذي أحدث إعلان خبر وفاته ردود فعل حزينة على منصات التواصل الاجتماعي؛ حيث تبارى الجميع في تعديد مناقب الفقيد ومآثره الطيبة وخصالة الحميدة التي كان يُعرف بها وسط الناس.
ولد حامد الياقوت عام 1959م بمنطقة الخالدية بالكويت، ودرس في مدرسة كيفان الثانوية قبل أن يتخرج في كلية الحقوق والشريعة، ويعمل محامياً للدولة، ويصبح رئيس لجنة الفتاوى لدى إدارة الفتوى والتشريع، ورئيس الإدارة القانونية في بيت التمويل الكويتي، وغيرها من الأعمال القانونية.
كان من مؤسسي جمعية الإصلاح الاجتماعي وأحد أهم أعمدتها، وكان يؤكد دوماً أن الجمعية تسعى إلى الحفاظ على قيم المجتمع وعاداته، حتى أصبح نائباً لرئيسها.
اعتنى الياقوت –مع مهامه الكثيرة– بالعمل الخيري؛ حيث كان يرى أنه مفتاح كل الأبواب، وكان يسعد حينما يرى ابتسامة ترتسم على وجه طفل فقير، وظل يعمل في هذا المجال دون كلل، ولم يمنعه مرضه يوماً أن يسعى على حوائج الناس(1).
وتوفي، رحمه الله تعالى، يوم الجمعة الموافق 12 يونيو 2015م، وشارك في جنازته آلاف المحبين والمشيعين(2).
ورثاه الكثيرون بكلمات وضحت منها مكانة الرجل في نفوس الناس، وفي قلوب كل من تعاملوا معه وعايشوه؛ حيث قال يحيى سليمان العقيلي، الأمين العام لجمعية الرحمة العالمية: رحم الله أخانا المستشار حامد الياقوت، عرفناه منذ السبعينيات من شباب جمعية الإصلاح تقياً ورعاً رقيق القلب سريع الدمعة، وفي السنوات الأخيرة تولى مسؤولية العمل في الجمعية، وانتقل بها إلى طور جديد من الانفتاح والشراكة المجتمعية، وهذا أمر يلمسه كل مراقب.
وقال محمد سالم الراشد، رئيس تحرير مجلة «المجتمع»: كانت لحامد بصمات كثيرة؛ أهمها بصمته في الريادة وتحمل مسؤولية أمانة عمل إسلامي دعوي وقيادة جمعية إسلامية رائدة حين ضنَّ الكبار والشيوخ في الدعوة عن تولي تلك المسؤولية والريادة.
أحمد الملط.. طبيب في ساحة الجهاد
لم يكن د. أحمد الملط، نائب المرشد العام للإخوان سابقاً، بالشخص الذي يتجاهله التاريخ، أو يتجاهل سيرته؛ وذلك لصفاته التي تميز بها، وأعماله في الكثير من الساحات سواء على أرض فلسطين أو أفغانستان أو البوسنة والهرسك، فضلاً عما كان يتحمله من أعباء مع مجتمعه المصري.
ولد د. أحمد محمد علي الملط في ديسمبر 1917م (1337هـ) بقرية القطاوية مركز أبو حماد بمحافظة الشرقية؛ حيث تحصل فيها على تعليمه، وحصل على المركز الثاني عشر في البكالوريا (الثانوية العامة) على مستوى القطر المصري؛ مما أهله للالتحاق بكلية الطب، فحصل على بكالوريوس الجراحة عام 1946م، وحصل بعدها على درجتي دكتوراه رغم كثرة انشغالاته والمحن التي تعرض لها.
تعرف على الشيخ حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، حيث كان من صفوة المقربين له، حتى إنه أصبح الطبيب المكلَّف بالكشف على المتطوعين في حرب فلسطين عام 1948م، ومن المواقف أثناء الحرب أن معظم الأطباء رفضوا الذهاب للجبهة خوفاً من القصف؛ الأمر الذي جعل د. سليمان عزمي، مدير الهلال المصري آنذاك، يلجأ للشيخ البنا يطلب منه أن يدعمه بأطباء من الإخوان؛ فكان أحمد الملط الذي كتب في الوثيقة: «في حالة وفاتي تسلم ديتي للشيخ البنا»؛ ما جعل البنا، ود. السباعي يجهشان بالبكاء.
قُبض عليه في قضية «السيارة الجيب» عام 1948م قبل أن تبرّئه المحكمة بعد ثلاث سنوات، واعتقل عام 1954م وظل في السجن حتى وفاة الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر(3).
كان الملط يعشق العمل الخيري والمجتمعي؛ فوضع بذرة الجمعية الطبية الإسلامية في مصر أواخر السبعينيات التي انتشرت فروعها في مصر وخارجها، وكانت تخدم الفقراء في المجتمع المصري.
وفي أثناء الغزو السوفييتي لأفغانستان، ساهم الملط في تكوين قافلة طبية، وسافر مع العديد من الأطباء لعلاج المرضى الأفغان، وكذلك عندما اجتاح الصرب سراييفو لم يجد الملط –وقد وهن جسده– إلا أن يسارع لتضميد جراح البوسنيين.
ظل نائباً للمرشد العام للإخوان المسلمين حتى خرج إلى السعودية لأداء فريضة الحج ووافته المنية وهو حاج ملبٍّ في ذي الحجة 1415هـ/ يونيو 1995م، وصُلي عليه بالمسجد الحرام، ثم دُفن بمكة المكرمة، ونعاه العالم الإسلامي كله(4).
فتحي يكن.. الداعية السياسي
ولد محمود فتحي محمد عنايت شريف يكن (فتحي يكن) بمدينة طرابلس بلبنان في 9 فبراير 1933م، وبدأ حياته في بيئة متدينة ومحافظة، وهو ما ساعده على تحديد الأهداف ومعرفة الغايات في صغره.
تخرَّج في كلية اللاسلكي المدني ببيروت، إلا أن مجال الفكر والدعوة تملّك اهتماماته، فانضم منذ صغره إلى جماعة «عباد الرحمن» ومؤسسها الشيخ عمر الداعوق، غير أنه لم يستمر بها كثيراً؛ لأنه وبعض رفاقه -أمثال إبراهيم المصري، والفقيه فيصل مولوي- كانوا ينشدون العمل الإسلامي المتعدد والشامل غير المقتصر على المساجد فقط؛ ومن ثم تأثروا بمنهج الشيخ حسن البنا وفكره؛ فأسسوا معاً الجماعة الإسلامية بلبنان، واختير يكن أميناً عاماً لها في مطلع الستينيات، وظل هكذا حتى عام 1992م حينما استقال من منصبه بعد أن تقدم للترشح في عضوية البرلمان حيث بقي في المجلس حتى عام 1996م(5).
وتعرض يكن للاختطاف من قبل النظام السوري يوم السبت 27 أكتوبر 1979م لمدة 15 يوماً بالقرب من ساحة التل بطرابلس، ولم يفرج عنه إلا بعد ضغوط كبيرة.
عُرف يكن بسعة أفقه، وتنوع فكره، وغزارة كتاباته، حتى إن معظم المكتبات لا تكاد تخلو من كتاب له أو مجلد، ومنها: «ماذا يعني انتمائي للإسلام؟»، «مشكلات الدعوة والداعية»، «كيف ندعو إلى الإسلام؟»، «أبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي».. وغيرها الكثير.
كانت له مواقفه على الساحة الإقليمية والمحلية، حيث كان رئيساً للجنة السياسية للتجمعات الإسلامية في العالم (تركيا)، وعضو بمؤسسة القدس، وعضو بمجمع سلم، وساهم مع بعض إخوانه في الجماعة الإسلامية برسم رؤية إصلاحية ووضع إستراتيجية للدولة اللبنانية؛ حيث طالبوا بتعديل الدستور، وإلغاء الطائفية السياسية في كل مستويات الحكم، ووضع قانون للجنسية اللبنانية، ووضع قانون للجيش بعيد عن الطائفية، وإجراء حوار واسع وشامل، وعودة جميع المهجرين، كما حذروا من أي محاولة لتقسيم البلاد(6).
كان لفتحي يكن العديد من المواقف الشجاعة تجاه القضية الفلسطينية وقضايا وطنه الذي مزقته الحرب الأهلية اللبنانية، وظل كذلك حتى توفاه الله يوم السبت 20 جمادى الآخرة 1430هـ الموافق 13/6/2009م.
_____________________________________________________________
(1) مجلة المجتمع: سيرة ومسيرة: المستشار حامد محمد عبدالله الياقوت، 16 سبتمبر 2015م،
(2) موقع جمعية الإصلاح الاجتماعي: رثاء حامد الياقوت،
(3) د. أحمد الملط: موقع إخوان ويكي،
(4) عبدالله العقيل: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة، جـ1، طـ8، دار البشير، طنطا مصر، 1429هـ، 2008م، ص127.
(5) علي لاغا: فتحي يكن رائد الحركة الإسلامية المعاصرة في لبنان، مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع، دار الفرقان للنشر والتوزيع, 1994م، ص 10 وما بعدها.
(6) أمل عيتاني وآخرون: الجماعة الإسلامية في لبنان 1975-2000م، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2017م، 1438هـ، ص 72.