يستعد مسلمو البوسنة لدفن رفات جديدة جرى اكتشافها مؤخرا لـ 33 من ضحايا مذبحة سربرنيتسا، الخميس 11 يوليو الجاري، بمناسبة الذكرى 24 لهذه المجزرة، وبدفن رفاتهم يكون عدد من تم التعرف على رفاتهم ودفنهم 6643 من إجمالي 8372 هم ضحايا هذه المجزرة، استشهد هذا العدد في 3 أيام فقط، خلال حرب البوسنة (1992 – 1995)، لكن ترى كيف أصبح التعايش في “سربرنيتسا” بعد مرور كل هذه السنوات؟
على طريق الاندماج
حول هذا السؤال تقول مريم توليتش – كاتبة وصحفية متابعة لشؤون السياسة الأوروبية ومتخصصة في البوسنة والهرسك في تصريحات لـ”المجتمع”: لا شك هناك جهود متواصلة من قبل المجتمع الدولي لتشجيع الاندماج وإعادة التعايش في مدينة سربرنيتسا، واضافت أن عدد لا بأس به من السكان المسلمين قد عادوا إلى منازلهم في سربرنيتسا “أقصى شرق البوسنة”.
عقبات في طريق التعايش
لكن هذا التعايش المرجو، لا تزال هناك عقبات تعوق وجوده بشكل حقيقي على أرض الواقع، ففي السابق كان رئيس البلدية مسلما، لكن في الانتخابات الأخيرة التي أجريت في عام 2018، أصبح رئيس بلدية “سربرنيتسا” من الصرب، وهو ما تعتبره “تولتش” مؤشرا خطيرا على ما يمكن تسميته محاولة مستمرة من قبل الصرب لفرض سيطرتهم وإثبات نفوذهم على المدينة، وهو ما ظهر في مشاركة صرب من خارج “سربرنيتسا” في انتخابات بلدية المدينة والتصويت للمرشح الصربي ما ساهم في فوزه.
تشير تولتش إلى أنه رغم مرور 24 عاما على المذبحة، فإنه لا تزال هناك تفرقة بين السكان من قبل الصرب تظهر بوضوح في المدارس وفرص العمل، فبرغم من الفرص الضئيلة للمسلمين مقارنة بالصرب، إلا أن مسلمي سربرنيتسا يحاولون الثبات والتمسك بحقهم في الوجود والعيش بالمدينة رغم تلك الظروف الصعبة، فنشاطات المسلمين بالمساجد متواصلة لاسيما بشهر رمضان وإقامة المسابقات القرآنية لأطفال كتاتيب المساجد، وغيرها من الجهود والأنشطة التي ترسخ الوجود الإسلامي القديم في سربرنيتسا.
وبالعودة لرفات الـ33 ضحية من شهداء يربرنيتسا، التي من المقرر دفنها غدا في مقبرة “بوتوكاري” المخصصة لضحايا المذبحة، فإنه يشار إلى أن من بينها رفات أصغر ضحايا المجزرة وهو “عثمان كورك” الذي كان عمره وقت المذبحة 16 عاما فهو من مواليد 1979، كما أن من بينها رفات أكبر الضحايا هذا العام وهي “ساها كورك” والتي كان عمرها آنذاك 82 عاما فهي من مواليد 1913، ويلاحظ أن كثيرا من الضحايا الذين جرى العثور على رفاتهم هذا العام تربطهم صلة قرابة.
وبحسب مدير معهد المفقودين في البوسنة والهرسك أمور ماسوفيتش: فإنه جرى التعرف على أجزء من رفات 140 آخرين وهي موجودة في مقر المعهد في “توزلا” لكن عائلاتهم لم تقرر دفنهم بعد لأن الجثث غير مكتملة، لكن يصعب العثور على رفات مكتملة للضحايا بسبب عمليات نبش المقابر، ففي تقريرها عن مذبحة يربرنيتسا، قالت “المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا سابقاً”: “في شهري سبتمبر وأكتوبر 1995م قام الصرب بنبش 8 مقابر جماعية من إجمالي حوالي 21 مقبرة، ونقلوا جثث هذه المقابر الثمانية وأعادوا دفنها في أماكن أخرى لتضييع الأدلة” عن ضحايا سربرنيتسا وضحايا حرب البوسنة مكتملة والتي يتجاوز ضحاياها مكتملة 120 ألف شهيد وفي تقارير أخرى مائتي ألف من مسلمي البوسنة واغتصاب أكثر من 50 ألف امرأة وفتاة.
مسيرة رفات الشهداء
مثل كل عام تطوف شاحنة تحمل الرفات التي يجري العثور عليها حديثا والتعرف على هوية أصحابها، عدة محطات في البلاد انطلاقا من “فيسوكو” مدن البوسنة مرورا بالعاصمة سراييفو وتتوقف في عدة محطات منها مقر رئاسة البلاد إذ ينتظرها آلاف المواطنين ومسؤولون ودبلوماسيون بالورود، في طريقها إلى محطتها الأخيرة في سربرنيتسا حيث النصب التذكاري ومقبرة بوتوكاري المخصصة لضحايا سربرنيتسا.
ما الذي حدث؟
مع ازدياد التوتر الحاصل بعد إعلان استقلال البوسنة، بدأ الصرب بالتوغل في مدن شرق البوسنة ومارسوا التطهير العرقي ضد المسلمين، بل إن الصرب الذين كانوا يعيشون في ذات الشوارع والبنايات مع البشناق مارسوا دوراً مشبوهاً في الوشاية بجيرانهم واغتصاب نساء وفتيات مسلمي البوشناق، ومع تقدم الصرب، تدفقت أعداد اللاجئين المسلمين من المدن التي سيطر عليها الصرب إلى سربرنيتسا، وهنا تضاعفت الأعداد فيها من 7 أو 10 آلاف إلى حوالي 40 ألف شخص، محاصرين بلا أي مقومات للحياة أو دواء.
منطقة آمنة منزوعة السلاح
في ظل تفاقم المأساة وافقت الأمم المتحدة في أبريل 1993م، على قرار رقم (819) الذي تم بموجبه إعلان “سربرنيتسا” منطقة آمنة منزوعة السلاح تحرسها قوات حفظ السلام، ووُعد السكان بالحماية بالفعل، على أن تتخلى القوات الحكومية البوسنية عن أسلحتها.
التزام من طرف واحد
“بعد انصياع الحكومة البوسنية لقرار الأمم المتحدة بتسليم السلاح، فوجئنا أن مناطقنا فقط نحن المسلمين أصبحت منزوعة السلاح، بينما يحتفظ الصرب بكل أنواع الأسلحة، انتزعوا أسلحتنا مقابل حماية الأبرياء، في الوقت الذي كان الصرب يحاصرون سربرنيتسا وقواتهم تطوقنا من كل جانب”.. كانت هذه شهادة أحمد أوستيتشك – أحد جنود الجيش البوسني، تكشف ازدواجية الأمم المتحدة وقواتها، كما صادر الصرب أغلب المساعدات الغذائية القادمة إلى سربرنيتسا.
حماية أم تواطؤ؟
في أوائل يوليو 1995م تجددت المواجهات وهنا أحضر الصرب أسلحة ثقيلة من صربيا واتجهت ناحية سربرنيتسا تقصفها، ويروي أحمد أوستيتشك في شهادته: “في منتصف الليل أعلن عبر المذياع أن قصفاً سيقوم به حلف “الناتو” على ضواحي سربرنيتسا وسيبقى وسط المدينة فقط هو المنطقة الآمنة، هنا انسحب جنود الجيش البوسني إلى وسط المدينة لكن للأسف كانت خديعة كبرى، فلم يحدث قصفاً من قبل “الناتو”، وكانت المفاجأة أن الصرب هم من تحركوا تجاه سربرنيتسا وبدؤوا هجومهم عليها”، نحن أمام مؤامرة إذاً!
هنا انقسم المحاصَرون بالمدينة إلى فريقين أحدهما تسلل إلى الغابات في محاولة للوصول إلى أقرب مدينة يسيطر عليها الجيش البوسني – تبعد 50 كيلومتراً- إلا أن الصرب أعدوا لهم كمائن بالطريق وقتلوا معظمهم ودفنوهم في حفر، بينما الفريق الآخر والنساء والأطفال قصدوا قاعدة الأمم المتحدة في (“بوتوتشاري” أو بوتوكاري) على بعد 5 كيلومترات من سربرنيتسا، مشياً على الأقدام، بعض التقارير تذكر أن نحو 20 ألفاً من الأهالي والجنود قصدوا قاعدة الأمم المتحدة، وحوالي 15 ألفاً فضلوا التسلل في الغابات أملا في الوصول إلى الجيش البوسني.
في انتظار الإبادة
نحن الآن على أبواب “بوتوكاري”، غموض وارتباك، ثمة أشياء تتم في الخفاء.. هنا في بوتوكاري، كانت الوحدة الهولندية العاملة آنذاك ضمن القوات الأممية، يروي أحد الناجين أن الجنود الصرب ارتدوا الخوذات الزرقاء الخاصة بجنود الأمم المتحدة، وفي اليوم السابق على المذبحة، دخل الجنرال راتكو ملاديتش، قائد قوات صرب البوسنة، إلى مكتب قائد الوحدة الهولندية.. نحن الآن في انتظار صفقة مشبوهة.
في اليوم التالي 11 يوليو 1995م، وأمام الكاميرات، خرج ملاديتش ينادي في اللاجئين: “اطمئنوا، لن يمسكم أحد بأذى، يمسح على رؤوس الأطفال ويوزع الحلوى والخبز عليهم”.. هنا صاح الناس فرحين: “شكراً لكم”، وهم لا يدرون أن مصيراً مرّاً ينتظرهم.
بعد ذهاب الكاميرات فصل الصرب، الذكور من سن 14 عاماً واقتادوهم، وسمحوا للنساء بالخروج، وهنا كان صوت الرصاص هو سيد الموقف إذ يجري قتل الذكور ودفنهم في مقابر جماعية، حتى أنه في شهادته أمام محكمة “لاهاي” قال الضابط في الجيش الصربي مومير نيكوليتش: سألت الجنرال ملاديتش: “ماذا علينا أن نفعل بكل هؤلاء الرجال؟ فأشار إليَّ بطريقة فهمت منها أنهم سيُقتلون جميعاً”.
دماء موزعة
سربرنيتسا لم تكن وحدها مسرح الجريمة، لكنها حظيت باهتمام إعلامي أوسع لا سيما مع الموقف المتواطئ من قبل القوات الأممية، يكفي أن نذكر بأن قوات الأمم المتحدة كانت تشترط على المسلمين تسليم أسلحتهم.
بداية القصة
كانت البوسنة والهرسك إحدى الجمهوريات الست المكونة ليوغسلافيا الاتحادية (صربيا، البوسنة، الجبل الأسود، مقدونيا، سلوفينيا، كرواتيا)، ويتألف سكانها من ثلاث قوميات، هي: البُشناق، والصرب، والكروات، وكلها ترجع إلى العرق السلافي القديم “عرق أوروبي”.
في عام 1990م أنشأ علي عزت بيجوفيتش مع آخرين حزب “العمل الديمقراطي” الذي فاز بأول انتخابات برلمانية وانتخب بيجوفيتش رئيساً للبوسنة في أواخر 1990م، وفي 29 فبراير والأول من مارس 1992م أجري استفتاء شعبي في البوسنة على الاستقلال عن يوغسلافيا، صوّت غالبية المشاركين فيه لصالح خيار الاستقلال، وفي 6 أبريل اعترف الاتحاد الأوروبي بدولة البوسنة، والولايات المتحدة لحقته بعد يوم بذات الاعتراف، كما تم رفع علم البوسنة أمام مقر الأمم المتحدة في شهر مايو 1992م، لكن هذه النتيجة لم يقبل بها صرب البوسنة أو نظراؤهم ممن تبقوا في يوغسلافيا، فشنوا حرب إبادة ضد المسلمين.
قاد هذه الحرب الجنرال العسكري راتكو ملاديتش، وزعيم صرب البوسنة آنذاك رادوفان كراديتش، كما شارك الكروات أيضا في الجرائم، حتى أنه في أواخر نوفمبر 2017م، انتحر القائد العسكري السابق لكروات البوسنة سولوبودان برالياك بتجرعه السم أمام المحكمة الجنائية الدولية بعد رفض قضاتها طعناً قدمه في الحكم بسجنه 20 عاماً عن جرائم الحرب ضد مسلمي البوسنة، سبق ذلك في نوفمبر 2017 إصدار المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي حكماً بالسجن المؤبد على القائد العسكري لصرب البوسنة راتكو ملاديتش بعد إدانته بعشر اتهامات بارتكاب جرائم إبادة وجرائم حرب وضد الإنسانية، أما زعيم صرب البوسنة رادوفان كاراديتش فقد صدر ضده حكم بالسجن 40 سنة.
اتفاقية دايتون
في 14 ديسمبر 1995م وقع كل من علي عزت بيجوفيتش، رئيس البوسنة والهرسك آنذاك، والرئيس اليوغسلافي الصربي سلوبودان ميلوزيفيتش، والرئيس الكرواتي فرانكو توجمان اتفاقاً في قاعدة دايتون الأمريكية، وهو الاتفاق الذي وإن كان قد أنهى الحرب إلا أنه قسم البوسنة إلى قسمين، هما: فدرالية البوسنة والهرسك وتضم المسلمين البشناق وكروات البوسنة، وهي على مساحة 51% من الأرض، وجمهورية صرب البوسنة “صربسكا” على مساحة 49% من الأرض، وبموجب هذه الاتفاقية يحكم جمهورية البوسنة والهرسك مجلس رئاسي من 3 أشخاص؛ ممثل للمسلمين وممثل الكروات وممثل لصرب البوسنة.