كان للفقراء أن يلتحقوا بالمدارس والكتاتيب دون دفع أجرة بل ربما أخذوا أجراً ليغنيهم وقت تفرغهم
السجناء نالوا قدراً من اهتمام أعيان القاهرة بتخصيص جزء من ريع أوقافهم على السجون ومن بها
حجج الوقف الأهلي حفلت بالشرط القائل: يؤول ريع الوقف بعد انقراض الذرية إلى عمارة الحرمين الشريفين
الأوقاف ساهمت في تنشيط اقتصاد القاهرة وتوسعها العمراني
السلطة العثمانية لم تكن احتلالاً لمصر إذ لم تكن سياساتها الاقتصادية امتصاص الموارد لحساب المركز
هناك ضرورة لدراسة حجة أوقاف الولاة العثمانيين كل على حدة ورصد آثارها على المجتمع المصري في فترة الوالي نفسه
أقوى ما يدل على سياسة الدولة هو ما تفعله في حال قوتها وعنفوانها، ولهذا السبب اخترنا أن ننظر في سياسة الدولة العثمانية في ولاياتها العربية لننظر: هل كانت سياسة دولة أجنبية محتلة كما هي النغمة التي تسود وتتصاعد في الحالة السياسية والإعلامية العربية، أم كانت سياسة دولة إسلامية تجاه رعاياها المسلمين؟
من ها هنا توقفنا أمام موضوع الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة، كنموذج للأوقاف العثمانية في مصر، التي هي نموذج من التعامل مع الولايات العربية، وذلك في الفترة التي شهدت ذروة قوة الدولة العثمانية: في عصر سليم الأول، ثم سليمان القانوني، وهي فترة نصف القرن الأول من حكم الدولة العثمانية للبلاد العربية.
واستعرضنا في المقالات السابقة تاريخ أوقاف الولاة العثمانيين في القاهرة، وكيف انعكست آثارها على القاهرة اتساعاً عمرانياً ونمواً اقتصادياً، ثم نلقي في هذا المقال الأخير بهذا الموضوع الضوء على الآثار الاجتماعية لهذه الأوقاف في مجتمع القاهرة.
تعددت الفئات والطبقات الاجتماعية التي استفادت من الوقف، بل شكلت تلك الأوقاف عماد حياتها في كثير من الأحايين.
1- الصوفية: في بحث إحصائي وُجِد أن الزوايا والتكايا حصدت نصيب الأسد من نسبة المباني المنشأة في العصر العثماني بنسبة 27%، ثم المساجد بنسبة 18.9%، وقد «يرجع ذلك إلى اهتمام الدولة العثمانية بتشجيع التصوف والصوفية، وتمثل ذلك بالتوسع في الأوقاف المرصدة على منشآت الصوفية وإعفاء أراضيها من الضرائب، ومن ثم ساعد ذلك في انتشار هذا الفكر، وقد رغب كثير من الناس في الانضواء تحت لوائه فراراً من شظف العيش»(1).
2- العلماء: منذ أوائل العصر العثماني حظي العلماء برعاية الدولة، فقد أصدر السلطان سليم الأول مرسوماً يقضي بعدم التعرض لرزق العلماء، والأوقاف المرصدة على المؤسسات التعليمية سواء أكانت موقوفة من قبل أمراء المماليك أم من الرعية، وبالنظر لمتوسط مرتبات تلك الفئة (العلماء) المخصصة لهم من الأوقاف، نجد أن المدرس كان يحصل على 118.75 نصف شهرياً، بينما بلغ دخل مؤدب الأطفال 18.22 نصف شهرياً، وهذا المتوسط تحكمت فيه شروط الواقف والريع المخصص من الوقف الذي كان متفاوتاً بالنسبة لكل شريحة(2).
وندرج في العلماء أيضاً القضاة باعتبار أنهم شريحة من العلماء، وقد كان القضاة من أوسع الناس استفادة من عملهم في النظارة على الأوقاف، إذ يسجل الواقف وقفه أمام القاضي الذي يصدق عليه ويصدر حجته ثم يشرف عليه ويعين ناظره ويحق له عزله إن خالف شروط الواقف أو ظهر منه ما يسوء(3).
3- الفقراء: وهم المعنيون بالأساس من عمل الخير الذي توقف له الأوقاف عادة، أو هم المستفيدون منها بطريق غير مباشر، حيث يمكن لهم الالتحاق بالمدارس والكتاتيب والتفرغ للتعلم دون دفع أجرة، بل ربما أخذوا أجراً على هذا ليغنيهم وقت تفرغهم، كذلك فلقد كانت التكايا والزوايا من الأماكن التي يمكن لهم أن يقيموا بها، وللعابرين منقطعي السبيل أن ينزلوا فيها، وكان الطعام في التكايا والمياه في الأسبلة يقدم مجاناً للفقراء.
ولقد كانت مساحة الأراضي الزراعية الموقوفة على بعض المنشآت الخدمية بالقاهرة (المدارس والكتاتيب والأسبلة..) في أوائل القرن السادس عشر قد بلغت 3823.26 فداناً، وذلك في البحيرة والقليوبية وغيرها من ولايات مصر»(4).
جاء في حجة وقف إسكندر باشا: «وجعل لعشرين من الفقراء يقيمون بالتكية في الشهر مائة وخمسين نصفاً، وفي اليوم عشرين رطلاً من الخبز، ولبوابها في الشهر ثلاثين نصفاً، وفي اليوم رطلين خبزاً، ولطباخها خمسة عشر نصفاً، وفي اليوم رطلين خبزاً، وكل يوم يُشترى أربعة أرطال من اللحم تجعل سبعة عشر جزءاً، منها خمسة عشر لشيخ التكية وفقرائها، وجزآن للواردين، وفي جمعة يطبخ أرز بالسمن والفلفل، وفي جمعة يطبخ زردة بعسل النحل ويفرق ذلك على التكية والواردين، وكل يوم أربعة أرغفة للواردين، وجعل في الشهر خمسة وأربعين نصفاً ثمن الحطب، وثلاثة أنصاف ثمن الخضراوات، وفي السنة مائتين وأربعين نصفاً لشراء بقرة وثلاثة خرفان تذبح في الضحية، وفي السنة ما يحتاج إليه من ثمن أرز أبيض خمسة أرادب، وقمح عشرة أرادب، وعدس خمسة أرادب، وحمص أردبين، وبصل اثني عشر قنطاراً، وفلفل خمسة أرطال، وملح أردباً واحداً، وسمن ستة قناطير، وعسل قطر خمسة قناطير ثمن القنطار ثمانون فضة..»(5).
وانتشر في حجج الأوقاف الاهتمام بالفقراء في أوقات معينة، حيث خصص ريعها «لإطعام الطعام للفقراء والمساكين والأرامل والمحتاجين في الجُمَع والمواسم والأعياد وأوقات المزاحم»، وبعضها اشترط أن يؤول ريع أوقافهم بعد انقراض نسلهم إلى مصالح فقراء القاهرة(6).
4- ذوو الأرحام: كان الوقف وسيلة للبر بالأقربين، فقد اشترط بعض الواقفين توظيف أهله أو أبنائه، ومن هذا القبيل شرط خسرو باشا أن يوظف عُتَقَاؤه في وظائف مهمة من وقفه، وكانت تورث وظائف الأوقاف كما في حجتي وقف خاير بك(7)، ونصت معظم حجج الأوقاف على أن يؤول ريع الوقف الأهلي على الذرية ومن بعدهم على العتقاء وذرية العتقاء كما في وقف خاير بك(8)، وكان خاير بك نفسه قد شيد في أوقافه مدافن لأقاربه وعتقائه(9)، وقد وصل بعض العتقاء إلى رتبة الأمير وشيدوا أوقافاً لهم، وكان من عتقاء داود باشا الأمير علي ريحان بن عبدالله الحبشي الذي قرر لعتقائه راتباً شهرياً من أوقافه، وأوقفت بعض النساء العتقاء أوقافاً، ومنهن من أوصت بنظارة وقفها لعتيقها(10)!
5- أبناء السبيل: أدت الأسبلة «دوراً في تزويد سكان المدينة بالمياه دون مقابل، حيث تبارى الخيرون في إنشاء الأسبلة، لأجل توفير ماء النيل طول العام بمختلف أرجاء المدينة، وقد تركزت بشكل عام في المناطق الآهلة بالسكان والأسواق والأحياء التجارية، بالإضافة إلى إنشاء بعضها في المناطق التي تتسم بالضعف العمراني، وقد كانت هذه الأسبلة جارية ضمن أوقاف خُصص جزء من ريعها للعناية بمثل تلك المنشآت، وحمل الماء إليها حتى لا تتعرض للجفاف، كما شملت فكرة توفير المياه أيضاً للحيوانات، حيث أنشئت بعض الأحواض لسقي الدواب، التي أُرصدت لها أوقاف لضمان القيام بمهمتها»(11).
6- السجناء: «نال السجناء قدراً من اهتمام أعيان القاهرة بهم، وذلك عن طريق تخصيص جزء من ريع أوقافهم على السجون ومن بها، فقد كان مخصصاً بوقفية الأمير جايم الحمزاوي 81.5 بطة دقيق، يتم خبزها وتوزيعها يومياً على الجامع الأزهر وحبس الديلم وغيرهم، كما خصص الحاج شهاب الدين أحمد أبي بكر الجبيلي في وقفيته عام 968هـ/ 1560م نصفين من ريع وقفه في ثمن خبز يتصدق به على المسجونين بسجن الرحبة والديلم، وفي عام 968هـ/ 1560م تم نقل وقف محب الدين محمد بن محمد المؤذن إلى سجن الرحبة والديلم، وذلك بعد زوال الجهة التي أرصد عليها الوقف، فقد أرصد بهذا الوقف 20 نصفاً شهرياً ثمن ماء عذب يسبل بالسجنين.. كما أوصى بعض التجار بجزء من ثروتهم لبعض المساجين، وخاصة أصحاب الديون على أن يسدد ما عليهم من ديون من هذه الأموال الموصى بها ويتم إطلاق سراحهم»(12).
7- الطبقة الوسطى: لضمان أداء حقوق الأوقاف فقد اشترط الواقفون أموراً، منها ما جاء في وقف سليمان باشا حيث يقضي بعدم تأجير شيء منها لظالم ولا لذي شوكة ولا لصاحب جاه ولا لحاكم ولا لمن يُخاف منه استيلاؤه عليه مجاناً(13)، وجاء في حجة وقف خاير بك ألا يتولى وظيفة في الوقف من سعى إليها بوساطة من متنفذ(14)، وهذا الشرط كان من آثاره توجه الانتفاع بالموارد المرصودة على الأوقاف للطبقة المتوسطة لا المتنفذة، وللضعفاء غير المتجبرين، وهو ما ساهم في توسيع هذه الطبقة الوسطى ودعمها على حساب الطبقة الحاكمة.
8- أهل الحرمين الشريفين: فقد كان وقف سليمان باشا يدر ريعاً أساسياً مقداره في العام 22 ألف بارة، وقد خصص منه عشرة آلاف بارة لأهالي مكة، واثني عشر ألفاً لأهالي المدينة المنورة، وقد توسع وقف إسكندر باشا الذي كان يدر عشرة آلاف بارة في العام فصار يدرّ 126 ألف بارة، ثم انخفض في وقت لاحق حتى وصل إلى 21.600 بارة، فكان يخصص منه لأهالي مكة 10.800 بارة ولأهل المدينة مثله(15).
وهذه الفئة وإن لم تكن من مجتمع القاهرة إلا أن لها أثراً دينياً كبيراً في القاهرة، إذ إن مكانة الحرمين الدينية والشعور العام الذي يسود أهل القاهرة في أن هذه الأوقاف تنفق ريعها على إعمار الحرمين كان واحداً من أهم الملامح الأساسية المرتبطة في الوجدان الشعبي القاهري، الذي مثَّلته مظاهر مثل قافلة الحج التي تحمل الكسوة وغيرها، وقد حفلت حجج الوقف الأهلي بالشرط القائل بأن يؤول ريع الوقف بعد انقراض الذرية إلى عمارة الحرمين الشريفين، وقد وقع أن كثيراً من الورثة تنازلوا عن أوقافهم للحرمين دون توريثها لورثتهم(16)، وهذا ما نعنيه بالأثر الديني لأوقاف القاهرة المرصودة على الحرمين.
9- الأتراك في القاهرة: فقد اشترط سليمان باشا في وقفه تعيين واعظ رومي يجيد اللغة التركية في جامع القلعة لكي يعظ بها الأتراك الذين صاروا جزءاً من أهل البلد(17)، وكانت الزاوية التي في وقفه «مخصصة تماماً للمتصوفة من غير العرب من سكان مصر، كما تنص على ذلك وثيقة الوقف بوضوح، وكان ينبغي أن يكون جميع العاملين ابتداء من الشيخ وحتى العمال اليدويين من العجم»(18).
وهكذا نرى أن تأثير الأوقاف التي أنشأها الولاة العثمانيون في القاهرة قد امتد إلى الفئات المتعددة والمتنوعة، وإلى أنشطة متعددة، فكان لها آثار عميقة وبليغة في مجتمع القاهرة آنذاك.
وإذا أردنا أن نجمل خلاصة الموضوع كله في نقاط فإننا نقول:
1- رغم أن الوالي في النظام الإسلامي ليس من مهماته الأصيلة إنشاء أوقاف جديدة، فإن معظم الولاة العثمانيين أنشؤوا أوقافاً كبيرة ذات أنشطة وأغراض متعددة كذلك.
2- دفعت هذه الحركة كثيراً من الأمراء ومن الطبقة الغنية إلى إنشاء أوقاف أخرى ورصدها على وجوه الخير.
3- ساهمت حركة الأوقاف هذه مساهمة كبرى في دعم وتنشيط اقتصاد القاهرة، وساهمت في توسعها العمراني بالذات في الجهة الشمالية والغربية، وكانت لها آثارها الواسعة على مجتمع القاهرة بسائر فئاته وشرائحه.
4- كانت الفئات الأهم التي استفادت من إنشاء هذه الأوقاف، هي: الفقراء الذين وجدوا مورداً لحاجياتهم الأساسية، والعلماء الذين وجدوا مورداً يعتمدون عليه في التعليم والتدريس وطلب العلم، والطبقة الوسطى التي وجدت في حركة الأوقاف الواسعة وظائف كثيرة تستطيع أن تؤمن بها حياة جيدة.
5- أن السلطة العثمانية لم تكن سلطة احتلال أجنبي لمصر، إذ لم تكن سياساتها الاقتصادية سياسة امتصاص الموارد لحساب المركز، وإنما كانت سياسة سلطة إسلامية تحكم بلاداً إسلامية، ولم يكن المصريون يعتبرون أنها سلطة احتلال أجنبي، ولا كانوا يتعاملون معها على هذا الاعتبار.
وفي النهاية، فإن ثمة مسؤولية على عاتق الباحثين في التاريخ والآثار لبيان حقائق التاريخ الإسلامي والعلاقة بين شعوبه، وفي هذا الموضوع الذي كنا بصدده، فإن ثمة ضرورة لدراسة حجة أوقاف الولاة العثمانيين كل على حدة، ورصد آثارها على المجتمع المصري في فترة الوالي نفسه ضمن غيرها من الظروف والأوضاع السياسية والعسكرية والإدارية، فدراسة من هذا النوع هي التي تضمن الكشف عن تفاصيل مهمة في آثار أوقاف الولاة العثمانيين، وهي التفاصيل التي تغيب في خضم الدراسة العامة التي تتناول قطاع الأوقاف العثمانية في فترة زمنية أوسع، وهي كفيلة بإلقاء الضوء بقدر أعمق على العلاقات بين الولاة العثمانيين والمجتمع في مصر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الهوامش:
(1) هدى جابر، البشر والحجر، ص77.
(2) هدى جابر، البشر والحجر، ص176، 177.
(3) عبدالرازق إبراهيم عيسى، تاريخ القضاء في مصر العثمانية (1517 – 1798)، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م)، ص276 وما بعدها.
(4) هدى جابر، البشر والحجر، ص79.
(5) نقلاً عن: علي مبارك، الخطط التوفيقية، 4/57.
(6) هدى جابر، البشر والحجر، ص191.
(7) محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص119، 120.
(8) محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص224، 225.
(9) محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص227.
(10) محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص225، 226.
(11) هدى جابر، البشر والحجر، ص112.
(12) هدى جابر، البشر والحجر، ص154، 155.
(13) محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص148.
(14) محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص213.
(15) سميرة فهمي علي عمر، إمارة الحج في مصر العثمانية: (923 – 1213هـ/ 1517 – 1798م)، (القاهرة: الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2001م)، ص356، 357.
(16) سميرة فهمي علي عمر، إمارة الحج في مصر العثمانية، ص362، 366.
(17) محمد عفيفي، الأوقاف والحياة الاقتصادية، ص103، 104.
(18) مايكل ونتر، المجتمع المصري تحت الحكم العثماني، ص244، وهنا لا بد من التعليق على أمرين وردا عند مايكل ونتر؛ الأول: أنه ذكر الذي نقلناه هنا باعتباره في وقف حسن الرومي الذي أنشأه سليمان باشا، وهذا خطأ إذ تاريخ زاوية حسن الرومي كما هو مسجل عليها يعود بها إلى فترة سابقة وهي فترة ولاية خاير بك كما قدمنا في الجزء المخصص لتاريخ الآثار، وأغلب الظن أن الخطأ وقع في نقله هو عن صاحب المقال الأصلي ليونور فرناندز أو وقع على سبيل الخلط، والثاني: هو استخدامه لفظ «العجم» ويعني به الأتراك، وهذا خطأ آخر ربما جاء من الترجمات، ذلك أن «العجم» كان يعني أهل إيران أو الفرس، بينما «الروم» هي التي تعني الأتراك في اصطلاح ذلك العصر. فلقد كانت عناية سليمان باشا بالأتراك «الروم» لا بالإيرانيين الفرس «العجم».