«بعض الناس يظن أن بر الوالدين سيف فيسله على رقاب الأولاد ليقطع إما شريان السعادة أو وريد الحياة»، هكذا بدأت صديقتي الطبيبة النفسية كلامها في لقائنا الشهري معاً.
فقلت: يا عزيزتي، لقد حاولت مراراً وتكراراً أن أوصل لك هذه القناعة منذ زمن، ولكنك تتشبثين برأيك، فما الذي تغير الآن؟
قالت: منذ فترة جاءتنا في المستشفى فتاة حاولت الانتحار، وكان بجوارها شاب لا يقلّ عنها انتحاراً، لكنه الانتحار النفسي من هذيان وحزن، إلا أنه واقف على قدميه.
قلت: زوجها؟
قالت: لا، بل خطيبها، أو مَنْ كان خطيبها.
قلت: ما كل هذا الارتباك؟ لم تكن الحالة الأولى التي تمر بك، فأنت طبيبة نفسية منذ سنين، وأنا مستشارة أسرية أحوّل إليك حالات نفسية شديدة.
قالت: رأيت بنفسي القسوة وهي متجسدة في صورة إنسان يسمى أباً، والجبروت ينافس الشدة في مشاعر من تسمى أماً.
تعجبت: ألهذا الحد؟ لماذا؟ ما الذي حدث؟
قالت: دخلتْ المستشفى محمولة على ذراعيه مهرولاً بها في كل مكان، ودموعه تسبق صرخاته؛ كي يجد من ينقذ ما بقي فيها من أنفاس، فهرول عليه كل مَنْ بالطوارئ من تمريض وأطباء، تجمع الجميع على صراخه، لم أرَ بكاء رجل ودموعه ممزوجة بألم كهذا الشاب، ولكن حينما جاؤوني بعد ذلك بالعيادة، وعلمت تفاصيل واقعهم، وأن أبويهما فسخ خطوبتهما دون سبب يعقل.
قلت: لم أجدك متعاطفة لهذا الحد مع مشكلة أو حالة بهذا الشكل!
وقد كنت تلومينني في بعض الأحيان أثناء حديثنا الشهري مع بعضنا، فكنت دائماً تقولين لي مازحة: «في مجال عملنا كوني كالخبز الجاف ولا تكوني كالبسكوت الهش فينكسر».. أتذكرين؟
قالت مازحة: نعم، وكنت تردين عليَّ قائلة: «هناك منطقة رمادية، منطقة وسط، حيث يقع فيها ما بين 1 – 100 من الحلول والبدائل، فالدنيا لا تقف عند نعم أو لا فقط، أو عند الرفض والقبول فقط، فهناك القبول المشروط، والرفض المتدرج، والقبول المعلق، والرفض المقنع، وغيره من دروس البدائل في الرفض والقبول والحصول على بعض ما تريد إن تعذر عليك كل ما تريد.
قلت: وماذا بعد؟ ما الذي تغير؟
قالت: لامست الفتاة شغاف قلبي وهي تريد الاستسلام لقرار والدها وارتباطها بخطيبها القوي الذي كاد أن يموت جراء ما فعلت.
قاطعتها: لا تأخذك حمية الحديث وتحكيه متقطعاً، ما الذي حدث؟
ردت عليَّ مبتسمة: باختصار كعادتي، حاولوا إسعافها من كم الحبوب التي تناولتها على إثر قرار والديهما بقطع العلاقة نهائياً بينهما، وبعد نقاش بينها وبين خطيبها في محاولة إيجاد حلول فشلا، فشعرت بالعجز وانهارت، فانتهزت فرصة ذهابه لشراء ماء لها فأخرجت الحبوب وتناولتها، وبعد وقت بدأت تتهاوى بين يديه، وعلم ما فعلته فجرى بها إلى المستشفى، والحمد لله لطف بها وتم إسعافها، ثم اتصلوا على والديها، وهنا كانت الصدمة!
أثناء وقوفنا بجوار الفتاة محاولين الاطمئنان عليها، وقد خرجت من الغرفة حتى وجدت من بعيد سيدة ورجلاً داخلين المستشفى في كامل هدوئهما، ولا يبدو عليهما أي انزعاج أو قلق، حتى رأوا الشاب، تبدل حالهما، وأخذا في الصراخ بأعلى صوت قائلين: مهما تفعل في نفسها لن تتزوجها، ولن تكون لك؛ فهي للقبر أقرب لها منك..!
والعجيب الذي جعلني أتعاطف مع هذه الحالة أنه لم يحركهما خوفهما على ابنتهما، ولكن حركهما رؤيتهما للشاب الذي مثَّل بالنسبة لهما تحدياً صريحاً لقرارهما، وشرعا في حوار تأنيبي للشاب أنه سيكون سبباً في موتها منتحرة، وأبواها غضبا عليها لأنها لم تستجب لرأيهما، وهكذا بدأ السيف يظهر سنا برقه.
حاولتُ أن أهدئ الأجواء فلم يستجيبا، ففهمت المغزى، فربتُّ على كتف الشاب ناصحة له بأن ينصرف، فرفض خوفاً على الفتاة، فقلت له: لا تقلق، إنها ابنتهما، فنظر إليَّ قائلاً: ولأنها ابنتهما أخشى عليها أكثر.
وفي النهاية، استجاب منسحباً على أمل أن يزورني هو وهي بالعيادة، لعلي أجد لها أو بالأحرى تجدين أنت لهما حلاً لمشكلتهما.
وبالفعل، بعد أن تماثلت للشفاء زارني ومعه الفتاة في العيادة، وقد رسم البكاء مجرى على خدها، واعتلى الحزن وجهه مظلماً، وكانت أول جملة بدأا بها كلامهما: لماذا يسن بعض الآباء سيف البر على رقابنا، قاطعين شريان السعادة، أو وريد الحياة والأمل؟!
قلت لصديقتي: ما أقسى كلامهما، وما أشد حالتهما.. كلامهما يقطر ألماً!
قالت: كل هذا ممكن أن يحدث مع حالات الهجر والغدر في الحب، لكن هذه الحالة طبيعية في بدايتها غير منطقية في نهايتها.
قلت: لِمَ؟!
قالت: هذه الفتاة زميلته في العمل، وقررا الارتباط بعد فترة، وبالفعل تمت الخطبة، وكل شيء على ما يرام، ثم حدث خلاف بين الأسر مثل أي خطبة يحدث بها ذلك، لكن من الواضح أن الثأر النفسي هو المحرك، فقرر الأبوان إنهاء الارتباط مستغلين برّها بهما في سماع كلامهما والاستجابة لقرارهما دون الرجوع لأي رأي لها أو اعتبار لمشاعر بين اثنين، وكأنهما هما اللذان سيتزوجان؛ فهما يقرران وهما يرفضان أو يكملان، وهل الأمر كان بهذا الأهمية حتى يكون مصيرهما الفراق؟!
قلت: لا تنسي أن الزواج قدر ونصيب، وقد نكون أسباباً لهذا، وأن البر بالأهل ورضاهم سبب لسعادة الأولاد.
رفعت حاجبيها مندهشة قائلة: أهكذا؟! أليس هذا كلامي من قبل ولا يعجبك؟
قلت: بعيداً عن ذلك، فالزواج أمر محسوم، لكن أن توظف أحد ضوابط الشرع لتطويع مَنْ أمامك بدون رحمة أو عقلانية أو حتى نقاش أو تراجع لمجرد أن سيف البر بيديهم فهذا ليس مقصود الشرع حتماً.
قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً {24}) (الإسراء).
قالت: نعم، مهما كان القدر، وأين يسكن النصيب، فنحن نتكلم عن سبب يتم توظيفه خطأ.
قلت: لا يستخدم البر كسوط نجلد به الأولاد لفعل ما نريد فقط لا لما هو أصوب أو أصلح.
قالت: ولقد زاد على ذلك الشاب والفتاة في حوارهما معي قائلين: «إن للبر صوتاً حنوناً يدفعك إلى أن تفعل أي شيء وكل شيء لهم، لكن أن يتحول هذا الصوت إلى سوط ليقودك إلى حيث تأمرهم معتقداتهم تارة وأهواؤهم تارة أخرى، متغاضين عن أثر هذه الجلدة على أجسادنا بل قلوبنا ومصيرنا».
فقلت له: يا ابني، البر قد يكون أحياناً شيئاً فوق أو دون قدرتك، وإلا ما كانت التوصية عليه في القرآن، فرد عليَّ: إن كان البر دون قدرتي وضد رغبتي أحياناً فسوف تدفعني إليه انحناءة حب منهما، البر له صوت يناديك أن تتحمل، ويدفعك لأن تفعل، وله سوط يحركه، دوافع أنت تلمسها في حدة وشدة أسنانه فتقف ضدها أحياناً.
قلت لصديقتي: لقد أبلغ الكلام الفتى، ولعلك أصلحت ما أفسدته قسوة القلب، واكتشفت كيف يكون الصلح.
ضحكت قائلة: هذا ما ينتظره الشاب والفتاة منك في الزيارة القادمة؛ لعل البسمة تكون على يديك.
قلت: أهكذا! أرجو إن شاء الله.