إن هذا المولود الذي نتحدث عنه هو مجلة «المجتمع» التي يمر اليوم على صدورها للنور نصف قرن من الزمان، عاشت بالكلمة الصادقة وللكلمة المجاهدة، وللتنوير الشرعي والفكري والدعوي والتبصير بقضايا المسلمين حول العالم، وإحياء روح الجهاد في الأمة.
ولا تتفاجأ حين تلمس هذا النفَس الأصيل والمجاهد والكاشف عن حقائق الإسلام والداحض لأباطيل خصومه والمهتم بقضايا المسلمين في العالم، وذلك في الكلمة الافتتاحية لأول عدد؛ حيث تمثل هذه الكلمة «دستور» المجلة في الاهتمامات والمعايير والسياسة التحريرية؛ إذ جاء فيها: «سمعنا النغمة التقليدية تواكبها مصطلحاتٌ تقليدية كذلك.. بدأت الرجعية تتحرك لتعويق الزحف الثوري، وضرب القوى التقدمية.. هذه المصطلحات ومئات أمثالها دفع بها لتلقانا على الطريق وتعترك معنا، ثم يأتي بعد ذلك دور الاتهامات والإشاعات، والذين يعرفون مخطط أعداء الإسلام سوف يطؤون الاتهامات بأقدامهم، ويأتون معنا بعزم إلى الغاية التي ننشدها جميعاً، أما الذين يجهلون مخططاتهم فإننا نتكفل بكشف الحقائق لهم حتى يكونوا على بينة من أعدائهم.
ونستطيع أن نقول ونحن نطرح صحيفة إسلامية: إننا سنكون صرحاء مع القراء وسنكاشفهم بكل شيء ولتكن صراحتنا من أول يوم:
أولاً: هذه الصحيفة تصدرها هيئة إسلامية هي «جمعية الإصلاح الاجتماعي»، وهي صحيفة تستمد فكرها الأصيل من الإسلام وعلى ضوئه وبمقياسه، وسوف تتقبل وبصدر رحب كل نقد هادف بناء، وترفض النقد الغوغائي والتجريح الذي لا يقبله الخلق الإسلامي.
ثانياً: هذه الصحيفة سوف تمد يدها لكل الناس يداً ترفع راية الإسلام وتبشر بالخير والبر، ولكنها سوف تقف في تحدٍّ من خصوم الإسلام.
ثالثاً: وهذه الصحيفة سوف تكتب في كل القضايا التي تهم أمتنا، وتعالج مشكلات المجتمع بكل جرأة وأمانة، والإسلام دين شامل يعالج جميع مشكلات الحياة فيصلحها، وإننا نرفض بشدة تجزئة العمل الإسلامي، فالمسلم يعيش في مجتمعه ولن يتخلى عن قضاياه.
رابعاً: وهذه الصحيفة سوف تقف على أرض الإسلام في كل مكان، وتدافع بكل قوة عن المسلمين في كل قضاياهم؛ فهي عالمية لأن الإسلام دين عالمي.
خامساً: هذه الصحيفة سوف تدق أجراس الخطر في كل مكان حتى يجتمع المسلمون في صعيد واحد ويجابهوا أعداءهم في صراحة ووضوح حتى يتحقق لهم النصر.
أخي القارئ، هذه صحيفة «المجتمع» وهي صحيفتنا جميعاً، فمن أراد أن يكون معنا فيدُنا مبسوطة إليه مهما بعدت الشقة بيننا وبينه، ومن كان علينا فيدُنا ممدودة إليه لنشده إلى طريق الحق والخير، وشعارنا قول الله عز وجل: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (النحل: 125)» (المجتمع). ا.هـ.
وبهذه الافتتاحية الأولى تضع «المجتمع» سياستها ومبادئها الأخلاقية والصحفية التي تمثل دستوراً للمجلة أو الصحيفة كما كانت تسمى في البداية.
مقاصد المجلة
سعت «المجتمع» خلال مسيرة نصف قرن إلى تحقيق عدد من المقاصد، وقد بلغتْ في ذلك شأواً بعيداً، وكانت موفقة في تحقيقها إلى حد كبير، ومن أهمها:
أولاً: بيان آراء الشرع عبر الفتاوى الشرعية:
خصصت المجلة ركناً خاصاً بالفتوى الشرعية لإجابة تساؤلات القراء أو لنشر فتاوى خاصة ومهمة متعلقة بالواقع، وقد تنوعت مضامين الفتاوى وموضوعاتها ما بين أحكام الطهارة والعبادات، وأحكام الأسرة؛ الزواج والطلاق والمواريث، وأحكام العقوبات، وأحكام السياسة الشرعية، وأحكام المعاملات، وغير ذلك مما يتعرض له المسلمون في حياتهم.
ولم تنس المجلة على صفحاتها الشرعية أن تتناول القضايا الجديدة والنوازل التي تقع للمسلمين، وتورد آراء أعلام الأمة من فقهائها ومجتهديها مما يوصّف أحكاماً شرعية لهذه المستجدات وتلك النوازل، مثل: مصطفى الزرقا، ويوسف القرضاوي، ومحمد أبو زهرة، وابن عثيمين، وعجيل النشمي، وخالد المذكور.. وغيرهم.
ثانياً: التنوير الفكري بالمقالات والتحقيقات:
خلال 50 عاماً اهتمت المجلة بمسائل شرعية وقضايا فكرية مهمة طرحت على صفحاتها في السياسة والاقتصاد والاستشراق والتاريخ والحضارة والنوازل والمستجدات، وهذا أعطى جرعة كبيرة من الثقافة الشرعية والحضارية للقراء والمسلمين والخطباء حول العالم؛ حيث كانت المجلة تمثل لهم المصدر الأول للتثقيف الفكري.
وقد استضافت المجلة عدداً كبيراً من الأعلام في الفكر والسياسة والاقتصاد والأدب شعراً ونثراً، من أمثال (مع حفظ الألقاب): عبدالله القصار، وعيسى عبده، وأحمد بزيغ الياسين، وعبدالمنعم تعيلب، ومحمد العلويني، ومحيي الدين عطية، وعمر سليمان الأشقر، ومحمد أبو زهرة، وعبدالله النفيسي، وحسن طنون، وسالم البهنساوي، وحسن أيوب، والسيد نوح، ويوسف القرضاوي، ومصطفى الزرقا، وعلي الطنطاوي، وتنزيل الرحمن (قاض باكستاني)، وعجيل النشمي، وجاسم المهلهل الياسين، وعلي بادحدح، وعماد الدين خليل، ومحمد الغزالي، ومحمد عمارة، ويونس حمدان، وعبد التواب هيكل، ومصطفى عبدالمهيمن الرفاعي، وأحمد العسال، وصلاح سلطان، وقاسم عبده قاسم، ويوسف جاسم الحجي، وعلي الحمادي، ومحمد حسن هيتو، ومحمد عبدالله السمان، وحامد سلام، وعبدالله صالح، وعلي جريشة، وعبدالمنعم صالح العلي المعروف بـمحمد أحمد الراشد، ومحمد نعيم ياسين، وأبو بكر أحمد السيد، وعبدالله شبيب، وزينب الغزالي الجبيلي، ومحمد علي البار، وعبدالقادر العماري، وعبيد الأمين، وعبدالعزيز العمري، وخالد المذكور، وعلي العمري، وجاسم المطوع، ومحمد موسى الشريف، وعلي بادحدح، ومحمد الصادق يوسف، وتوفيق الشاوي، وتوفيق الواعي، وعلي أحمد باكثير، وفتحي يكن، ومجدي الهلالي، وعبدالرحمن صالح عشماوي، وعدنان علي رضا النحوي، وعثمان قدري مكانسي، وسليمان بن ناصر العلوان، وحلمي القاعود، وجابر قميحة.. وعدد كبير من الفقهاء والأدباء والمؤرخين والمثقفين والشعراء والأدباء، الذين مثلوا إضافة كبيرة وتنويراً حقيقياً في المجالات التي ارتادوها والمقالات التي كتبوها.
ثالثاً: تنوير القراء بقضايا المسلمين حول العالم:
من أهم ما يميز «المجتمع» أنها نشرت على صفحاتها ما يتعلق بقضايا المسلمين وهمومهم في العالم كله، ولا غرو فقد جعلت شعارها «مجلة المسلمين حول العالم».
فلا تحدث مشكلة في أقصى الشرق ولا أقصى الغرب، أو في قمة الشمال ولا قاع الجنوب إلا وتجدها مطروحة على صفحات المجلة، كما أنه يجعل المسلمين على ذُكْر من قضايا المسلمين ومتابعتها، مما يترتب عليه القيام بما يُستطاع من الواجبات نحوهم، وحشد الحشود وتأليف الصفوف لنصرة هذه القضايا.
ومن العجيب أن يكون أول عدد للمجلة يتحدث عن «القضية الكردية»، مما يشير إلى اهتمام عام دون تعصب أو نظرات ضيقة، ثم توالت الأعداد بعد ذلك مستعرضة قضايا المسلمين ومشكلاتهم، مثل: القضية الفلسطينية وأفكار اليسار وقضايا الشيوعية، وأحوال المسلمين في بورما، والهند، والسودان، وأفغانستان، وباكستان، وليبيا ومصر والجزائر واليمن وأفريقيا وإندونيسيا ماليزيا، والمغرب وموريتانيا والسنغال، ولا ننسى تغطية المجلة لحروب العراق والبوسنة وكوسوفو وأفغانستان وغير ذلك، وشؤون الأقليات المسلمة في أمريكا وأوروبا وفقههم وما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم.
رابعاً: استيعاب شرائح مهمة في المجتمع:
استهدفت استيعاب شرائح مهمة من المجتمع في المجال الشرعي والفكري والثقافي، مثل: الشباب والأطفال والمرأة، فلا يكاد يفوت عدد من الطرائف اللغوية، ومن المسائل الطبية التي استكتبت فيها كبار الأطباء، ومن شؤون المرأة وقضايا الأسرة، والأمور الترفيهية مثل المسابقات الثقافية، وفتح أبواب لرسائل القراء وتقدير آرائهم بالرد عليها، وتخصيص ركن للطلبة، كل هذا أتاح للمجلة مساحة واسعة من الانتشار والاهتمام، ووسع دوائر النفع بها والإقبال عليها كما لم يتوفر لمجلة في عصرها.
إن «المجتمع» أسهمت في تشكيل عقل الأمة ووعي شبابها ودعاتها، وقد لمستُ ذلك بنفسي حين أسهمت فيها بجهد متواضع بمقالات فكرية وتحقيقات شرعية، فقد وجدت أثرها في بعض المراكز الإسلامية في أمريكا وأوروبا، وكيف أن الدعاة والخطباء يتلقفون ما يُكتب في المجلة ويفيدون منه في دروسهم وخطبهم وأنشطتهم، وهذه المسيرة جديرة بأن تبقى على طريق العطاء الفقهي والفكري والدعوي الناهض بالأمة والخادم لها على طريق صحوتها المباركة.