رغم أنها ليست من الدول العظمى، فإن تركيا رسمت مسار نجاح نسبي في مواجهة «كورونا»، من خلال نموذج توسط بين الصرامة الشديدة والتهاون التام، معتمداً التدرج في الإجراءات لتخفيف حدة الوباء وإبقائه ضمن إطار يمكن للقطاع الصحي التركي التعامل معه وإدارته.
في أحد إيجازاته الصحفية، قال وزير الصحة «فخرالدين كوجا»: إن وزارته كانت قد أعدت قبل عام من الآن خطة أولية للطوارئ للتعامل مع أي وباء محتمل؛ وبالتالي كيف تتصرف الوزارة ومختلف مؤسسات الدولة إزاءه؛ وهو ما يعني أن تركيا كانت مستعدة جزئياً للوباء قبل وقوعه.
مع انتشار الوباء في الصين، شكلت الوزارة هيئة علمية مختصة لمتابعته مشكّلة من عشرات الأساتذة ذوي الاختصاصات المعنية، وكذلك من مسؤولي وزارة الصحة، لرسم إستراتيجية البلاد لمواجهة الجائحة قبل دخولها للبلاد ثم لاحتوائها بعد دخولها، وكان من اللافت أن معظم القرارات الحكومية استرشدت بتوصيات اللجنة.
بدأت الإجراءات الاحترازية مبكراً، قبل توثيق أي حالة «كورونا» في تركيا، بوقف الرحلات الجوية من إقليم ووهان وإليه ثم عموم الصين، وأعقب ذلك ضبط الحدود البرية مع إيران ثم إغلاقها تماماً، ومع تسجيل الحالات الأولى في البلاد، أُوقِفت الدراسة بمختلف مستوياتها، وألغيت الصلوات في المساجد، ومنعت الأنشطة الجماهيرية، وأغلقت أماكن الترفيه والتجمع.
حظر جزئي
وفي وقت لاحق، بدأت الحكومة التركية بإجراءات حظر تجول «جزئي»، عمرياً لمن هم فوق 65 وتحت 20 من العمر، وجغرافياً في 31 محافظة -هي الأكبر- من بين 81، وزمنياً بحيث شملت عطلة نهاية الأسبوع ومددت أحياناً أكثر من ذلك.
من زاوية أخرى، وبعد انتشار الوباء في الداخل، بدا القطاع الصحي قادراً على التعامل مع الجائحة وأعداد المصابين المتسارعة، دون أن تصل المستشفيات، وخصوصاً وحدات العناية المركزة، إلى حالة الإشباع وبالتالي العجز عن الإدارة.
ولئن كانت أنقرة تمتلك متوسطات غير مرتفعة من أعداد أطباء وأسرّة المستشفيات نسبة لعدد السكان، إلا أنها تتفوق في متوسط عدد وحدات العناية المركزة الذي يبلغ نحو 40 وحدة لكل 100 ألف شخص، وهو متوسط أعلى من عدد من الدول المتقدمة علمياً وطبياً وصناعياً، ويضاف إلى ذلك وجود نحو 100 ألف غرفة إضافية يمكن تحويلها عند الحاجة إلى وحدات عناية مركزة أو عزل، وفق وزير الصحة.
كما أن تركيا عمدت إلى الاكتفاء الذاتي في عدة تفاصيل حيوية في مواجهة الفيروس، فبدأت باستيراد بعض الأدوية المهمة قبل أن تبدأ تصنيعها محلياً، إضافة لمستلزمات الحماية الشخصية الضرورية للعاملين في القطاع الصحي، وفي مقدمتها الكمامات الطبية التي باتت توزع مجاناً على الشعب، كما أن كل إجراءات التشخيص والعلاج أتيحت مجاناً للجميع في مستشفيات الدولة بما في ذلك الأجانب المقيمون.
في الأسبوع الخامس لظهور الحالة في تركيا، بدت البلاد قريبة من الوصول لمرحلة الذروة؛ أي استمرار نفس الوتيرة في تسجيل الحالات الجديدة والوفيات بدون تسارع غير منضبط، ذلك أن الحالات الجديدة بقيت ضمن نسبة 11 – 13% من الفحوصات المجراة، ونسبة الوفاة شبه ثابتة عند 2.1%، ونسبة من يحتاجون للعناية المركزة أقل من 4% من الإصابات، وهي نسب أقل بكثير من تلك التي سجلت في الأسابيع الأولى؛ ما يشير إلى بداية انكسار حدة تصاعد الوباء، في مقابل الارتفاع الملحوظ في أعداد ونسبة المتعافين منه يومياً.
التأثير الاقتصادي
ويعد الاقتصاد من القطاعات الأكثر تأثراً بالجائحة؛ حيث تمر معظم دول العالم بحالة من الجمود والركود على أصعدة عدة في مقدمتها التجارة الخارجية والاستهلاك المحلي والسياحة والترفيه والطيران.. إلخ، هذه الخسائر الاقتصادية البارزة يضاف لها الإجراءات الحكومية الاحترازية؛ مثل تقنين العمل والخروج من المنزل وغيرها، التي تبطئ من عجلة الاقتصاد من جهة، وتستنزف الحكومة مالياً من جهة أخرى.
وقد عمدت تركيا إلى دعم القطاعات والأطراف المتضررة من الوباء والإجراءات الاحتياطية على حد سواء من شركات ومؤسسات وقطاعات صناعية وأفراد ضمن خطة «درع الاستقرار الاقتصادي» التي أعلنتها ووضعت لها مبدئياً ميزانية 100 مليار ليرة؛ أو ما يعادل 15 مليار دولار أمريكي، وتشمل الخطة إعفاءات ضريبية، وتأجيل مستحقات دفع، وتسهيل الحصول على القروض المصرفية، ودعم الشركات الصغيرة والمتوسطة، ومنح مرتبات شهرية للعائلات المحتاجة.. إلخ.
لكن من المهم الإشارة إلى أن تداعيات الجائحة وخصوصاً الاقتصادية منها مستمرة ومتنوعة ومتغيرة، بحيث احتاجت الحكومة لإجراءات إضافية على الخطة في عدة مسارات، وهو ما زاد من استنزاف احتياطي البنك المركزي بأكثر من 10 مليارات دولار خلال فترة وجيزة، فضلاً تراجع الليرة أمام العملات الأجنبية.
حالة الاستقطاب
سياسياً، أخيراً، لم يكن للجائحة تأثيرات كبيرة على البلاد، على الأقل حتى اللحظة الحالية، فلا البلاد على عتبة انتخابات، ولا أصيب أحد من كبار المسؤولين، كما أن أداء وزير الصحة يُقابل بحالة من القبول شبه المجمع عليه، فضلاً عن أن الكلفة البشرية للمرض -من الوفيات- بدت أقل من دول أخرى مجاورة أو متقدمة.
لكن ذلك لم يمنع استمرار حالة الاستقطاب بين الحكومة والمعارضة وإن بدرجة أقل نسبياً من السابق، حيث تتهم المعارضة، وخصوصاً رئيس بلدية إسطنبول الكبرى «أكرم إمام أوغلو»، الحكومة بعدم التنسيق في المحطات المهمة، ومنها إعلان حظر التجول.
في الخلاصة، ورغم أن أعداد الإصابات بفيروس «كورونا المستجد» تضع تركيا في مرتبة متقدمة عالمياً، فإن المؤشرات الأخرى الأكثر أهمية مثل نسب الوفيات ومرضى العناية المركزة ومن هم على أجهزة التنفس الصناعي تقدم صورة لنجاح نسبي في مواجهة الوباء.
الأهم أن معطيات القطاع الصحي توحي بقدرته على إدارة الأزمة لفترة زمنية أطول، حيث ما زالت نسبة الإشغال في غرف العناية المركزة في إسطنبول (التي تحوي أكثر من 60% من الحالات) دون 60%، بينما هي في المحافظات الأخرى أقل من ذلك بكثير، ومع افتتاح مستشفيات جديدة في المحافظة الأكبر، ومنها المدينة الطبية التي تحوي مئات الأسرّة، والشروع في بناء مستشفيات أخرى، تسعى الحكومة إلى تجنيب القطاع الصحي حالة الإشباع، وبالتالي الابتعاد عن سيناريو العجز والشلل الذي أصاب بعض الدول الأوروبية.
ختاماً، كل ما سبق لم يتحقق فقط بالإجراءات الحكومية على أهميتها، وإنما كذلك بالتجاوب الشعبي -بنسبة مقبولة- معها؛ وهو ما يعني أن استمرار تركيا في مسارها الإيجابي نسبياً وتجنبها السيناريوهات الكارثية مرهون باستمرار الشعب بالالتزام بل ورفع نسبته، وإلا فإن «كورونا» أثبت في أكثر من بلد أن التهاون معه يخرجه عن السيطرة، ويجعل تداعياته كارثية على كافة المستويات، وفي مقدمتها الصحية المرتبطة بحياة البشر.