عبدالملك بن عبدالله بن يوسف بن محمد بن عبدالله بن حيُّويه الجُوَيْني النّيسابوري، إمام الحرمين، أبو المعالي.
هو الإمام شيخ الإسلام البحر الحَبْر، المدقّق المحقّق، النّظّار الأصولي المتكلم، البليغ الفصيح الأديب، العلَم الفَرْد، زينة المحقّقين.
وإذا وعَظ ألبس الأنفسَ من الخشية ثوباً جديداً، ونادته القلوب: إننا بَشَرٌ فأسجح، فلسنا بالجبال ولا الحديدا.
رُبّيَ في حِجر العلم رشيداً، حتى رَبا، وارتضع ثَدْيَ الفضل فكان فِطامُه هذا النّبا، وأحكم العربية، وما يتعلق بها من علوم الأدب، وأوتِي من الفصاحة والبلاغة ما عجَّز الفُصَحاء، وحيَّر البلغاء، وسكَّت مَن نطق ودأب.
وُلد في ثامن عشر المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة، واعتنى به والده من صِغَره، لا بل قبل مولده.
وذلك أن أباه اكتسب من عمل يده مالاً خالصاً من الشُّبهة، اتصل به إلى والدته، فلما ولدته له حرص على ألا يُطعمه ما فيه شبهة، فلم يمازج باطنَه إلا الحلالُ الخالص، حتى إنه تلجلج مرة في مجلس مناظرة، فقيل له: يا إمام، ما هذا الذي لم يُعْهد منك؟
فقال: ما أراها إلا آثار بقايا المصّة.
قيل: وما نبأ هذه المصة؟
قال: إن أمي اشتغلت في طعام تطبُخه لأبي، وأنا رضيع، فبكيت وكانت عندنا جارية مرضعة لجيراننا فأرضعتني مصة أو مصتين، ودخل والدي، فأنكر ذلك، وقال: هذه الجارية ليست مِلكاً لنا، وليس لها أن تتصرف في لبنها، وأصحابُها لم يأذنوا في ذلك، وقلبني وفوّعني حتى لم يَدَعْ في باطني شيئاً إلا أخرجه، وهذه اللّجْلجة من بقايا تلك الآثار.
فانظر إلى هذا الأمر العجيب، وإلى هذا الرجل الغريب، الذي يحاسب نفسه على يسيرٍ جرى في زمن الصبا الذي لا تكليف فيه، وهذا يدنو مما حكي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
ثم أخذ الإمام في الفقه على ولده، وكان والده يُعْجَب به ويُسَر؛ لما يرى فيه من مخايل النجابة، وأمارات الفلاح.
وجَدّ واجتهد في المذهب والخلاف، وغيرها، وشاع اسمه، واشتهر في صباه، وضُربت باسمه الأمثال، حتى صار إلى ما صار إليه، وأوقف علماء المشرق والمغرب معترفين بالعجز بين يديه، وسلك طريقَ البحث والنظر والتحقيق.
ولا يشك ذو خبرة أنه كان أعلمَ أهلِ الأرض بالكلام والأصول والفقه.
ثم توفِّيَ والده وسنه نحو العشرين، وهو مع ذلك من الأئمة المحقِّقين، فأُقعده مكانه في التدريس، فكان يدرِّس ثم يذهب بعد ذلك إلى مدرسة البَيْهقي، حتى حصَّل الأصول عند أستاذه أبي القاسم الإسكاف الإسْفَرايني، وكان يواظب على مجلسه.
وكان يصل الليل والنهار في التحصيل، ويبكّر كل يوم، ويقتبس من كل نوع من العلوم ما يمكنه، مع مواظبته على التدريس، وناداه على بُعد الديار البيتُ الحرامُ فلبَّى وأحرم، وتوجه حاجّاً، وجاور بمكة أربع سنين، يدرس ويُفتي، ويجتهد في العبادة ونشر العلم.
فبُنيت له المدرسة النظامية بنيسابور، وأُقعد للتدريس فيها، واستقامت أمور الطلبة، وبقي على ذلك قريباً من ثلاثين سنة، غيرَ مُزاحَم ولا مُدافَع، مسلَّم له المحراب والمنبر والخطابة والتدريس، ومجلس التذكير يوم الجمعة، والمناظرة.
ومن تصانيفه «النهاية» في الفقه، و»الشامل»، و»الإرشاد» في أصول الدين، و»البرهان» في أصول الفقه، و»الورقات»، و»غياث الأمم»، و»مُغيث الخَلْق» في ترجيح مذهب الشافعية، و»الرسالة النظامية»، و»مدارك العقول»، وله «ديوان خُطَب» مشهور.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: تمتعوا بهذا الإمام، فإنه نزهة هذا الزمان، يعني إمام الحرمين.
وقال له مرة: يا مقيدَ أهل المشرق والمغرب، لقد استفاد من علمك الأولون والآخِرون.
وقال الحافظ أبو محمد الجُرجانيّ: هو إمام عصره، ونسيج وحده، ونادرة دهره، عديم المثل في حفظه وبيانه ولسانه.
تُوفِّيَ ليلة الأربعاء بعد صلاة العَتَمة الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر، من سنة ثمان وسبعين وأربعمائة»(1).
الفوائد التربوية والإيمانية:
– الحرص على طلب العلم منذ الصغر يورث الإمامة في الكبر.
– حرْص العلماء الربانيين على الحلال والبعد عن الشبهات أثمر ذرية طيبة.
– العالم الرباني حريص على تعليم الناس أمر دينهم وتربيتهم على الخير.
– حرْص العلماء على التدريس في المساجد والمدارس.
– الجمع بين التعليم والتعلم من صفات العلماء المتميزين الذين لا يبالون بثناء الناس ومدحهم، ولا يغترون بالشهرة، بل هم أعلم بأنفسهم وحاجتهم إلى التعلم وسد النقص في جوانب الخلل لديهم.
– رحم الله علماءنا؛ فكان يعرف بعضهم قدر بعض، فلا يترددون في ذكر مآثر بعضهم عدالة وإنصافاً وشهادة.
– الزاد الإيماني من عبادة وحج وقراءة القرآن هو الزاد الذي كان يحرص عليه العلماء.
والحمد لله رب العالمين.
_____________________________
(1) عبدالوهاب بن علي السبكي، طبقات الشافعية الكبرى، ج5، تحقيق: عبدالفتاح محمد الحلو، محمود محمد الطناحي.