في ظل انشغال مختلف الأطراف الليبية بمواجهة جائحة كورونا، وبعد سيطرة قوات حكومة الوفاق على مناطق مهمة كانت تحت سيطرة قوات حفتر، أعلن خليفة حفتر في 27 أبريل 2020 إسقاط اتفاقية الصخيرات، وتنصيب نفسه حاكماً فردياً لليبيا بتفويض شعبي، مفاجئاً بذلك مختلف الأطراف؛ المعارضة منها والداعمة على حد سواء.
فبموجب اتفاقية الصخيرات، التي وقعت في 17 ديسمبر 2015 بهدف تشكيل حكومة وحدة وطنية في ليبيا لإنهاء الحرب المندلعة في البلاد منذ عام 2014، توزعت السلطة السياسية في البلاد بين البرلمان المنتخب عام 2014 (سلطة تشريعية)، والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني (سلطة تنفيذية)، إلى جانب المجلس الأعلى للدولة (استشاري).
ومن خلال إعلانه إسقاط اتفاقية الصخيرات تجاوز حفتر كل المؤسسات السياسية في البلاد التي قامت بموجب تلك الاتفاقية، وهو ما قد يؤدي إلى عودة البلاد إلى سيناريو الحرب الأهلية التي فرت منها سابقاً.
يبحث تقدير الموقف في دوافع إعلان حفتر إسقاط اتفاقية الصخيرات، وانعكاسات تجاوزه للأطراف الداعمة له على المستوى الدولي والإقليمي، وكيف سيؤثر ذلك في المستقبل الأمني والعسكري لليبيا؟
سياقات التصعيد
على الرغم من دعم بعض الأطراف الإقليمية والدولية لحفتر منذ بدء حملته لاجتياح العاصمة طرابلس في 4 أبريل 2019، فإنه لم يتمكن من تحقيق أي تقدم فعلي على أرض الواقع، وتعقد الوضع أمامه أكثر بعد توقيع حكومة الوفاق الليبية اتفاقية أمنية مع تركيا في 7 ديسمبر 2019، إذ استفادت الحكومة من الدعم التركي لتحقق تغييرات ميدانية على أرض الواقع، وذلك ما دفع حفتر إلى إعلان معادلته الصفرية؛ في محاولة لحسم المعركة عسكرياً لا سياسياً.
وفقاً للباحثة في شؤون شمال أفريقيا “نباهت تنري ويردي يشار” يأتي إعلان حفتر الانقلاب على اتفاق الصخيرات رداً على التطورات الميدانية الجارية في ليبيا، التي تعبر عن فشل سياساته على الأرض، إذ شهدت ليبيا تطورات مهمة خلال الأسابيع الماضية، حيث كثفت حكومة الوفاق الوطني من عملياتها على قاعدة الوطية الجوية (140 كم جنوب غرب طرابلس) التي تسيطر عليها ميليشيات حفتر، وهو ما دفع قوة من مدينة الزنتان (170 كم جنوب غرب طرابلس) إلى الانسحاب من القاعدة، ووقف دعمها لحفتر.
إلى جانب التغيرات التي فرضتها التدخلات الخارجية، تعاني جبهة حفتر من تصدعات كبيرة على إثر ارتفاع عدد القتلى بين أبناء القبائل الموالية له، بعد دخول الدعم التركي إلى المعادلة، دون وجود نتائج متحققة ميدانياً.
شهدت ليبيا خلال الأسبوع الأخير من شهر أبريل الماضي تنظيم احتجاجات في مدينة سرت (450 كم شرق طرابلس) لبعض الجماعات المؤيدة لسيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم المخلوع معمر القذافي، ويعدُّ تنامي عدد هذه الاحتجاجات مصدر قلق حقيقياً لحفتر الذي يسعى، من خلال إعلانه تنصيب نفسه حاكماً بهذه الطريقة، إلى تعزيز موقفه ضد هذه الأصوات، التي بدأت بسحب الغطاء وتعليق الدعم الذي كانت تقدمه له.
ويعد انشقاق مليشيات الزنتان (الجناح الموالي لحفتر)، التي تتمتع بقوة إستراتيجية من الناحية الجغرافية، وتغيير موقفها ودعمها لحكومة الوفاق الوطني، ضربة قاصمة لقوات حفتر، إذ يعني هذا الانشقاق أن بعض المناطق في غرب ليبيا ستصبح تابعة لحكومة الوفاق، وهذا الوضع سيجعل قوات حفتر في وضع صعب خاصة على جبهة ترهونة (90 كم جنوب شرق طرابلس).
وفي الجانب السياسي تشهد جبهة حفتر تصدعاً حقيقياً بعد ارتفاع حدة التوترات بين عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب في طبرق (شرق)، وحفتر، إذ جاء إعلان حفتر بعد خطاب عقيلة بساعتين، الخطاب الذي اقترح فيه عقيلة مبادرة سياسية جديدة؛ في محاولة لإنقاذ البلاد.
وينتمي صالح لقبيلة العبيدات، إحدى أكبر قبائل شرق ليبيا عدداً وعدة، إذ تسيطر على أغلب أجزاء الشرق ما بين مدينة شحات وصولاً إلى مدينة طبرق، وبشكل عام شكلت قبائل المنطقة الشرقية سنداً قوياً لحفتر خلال المرحلة السابقة؛ لكونها تعد كتلة متماسكة جغرافياً من خلال تمركزها في مناطق شرق ليبيا وعاصمتها الثانية مدينة بنغازي، إضافة إلى موقعها بالهلال النفطي، غير أن التصدعات بدأت بين حفتر وبين بعض هذه القبائل منذ معركة طرابلس، إذ بوصول ضباط من أبناء قبيلة الفرجان، أبناء عمومة خليفة حفتر، وضباط من أنصار نظام القذافي إلى مناصب عليا وحساسة في المؤسسة العسكرية التي يحاول حفتر إنشاءها، بدأت بوادر الانشقاقات والتصدع بين صفوف مقاتلي حفتر خاصة بعد السيطرة على بنغازي وتأسيس كتائب تابعة له مباشرة بقيادة نجليه خالد وصدام، وصهره أيوب الفرجاني.
استغل حفتر هذا التصدع للتخلص من منافسيه الأقوى ضمن أبناء قبائل المنطقة الشرقية من أبناء قبيلتي العواقير والعبيدات، وهو ما زاد من حدة تصدع الجبهة الداخلية لحفتر، إذ عقب إعلان حفتر تنصيب نفسه حاكماً لليبيا أعلنت قبيلة العبيدات -التي ينتمي إليها صالح- دعمها لمجلس النواب، وعدم تفريطها به، في إشارة إلى عدم تأييدها لمبادرة التفويض، إضافة إلى ذلك أعلنت مدينة سبها، عاصمة الجنوب الليبي وثالث أكبر المدن الليبية، انشقاقها عن حفتر وانضمامها لحكومة الوفاق المعترف بها إقليمياً ودولياً، كل هذا التصدعات الداخلية سيكون لها أثر حتمي في العمليات الميدانية لقوات حفتر ككل.
دوافع إعلان إسقاط اتفاقية الصخيرات
بإعلان حفتر إسقاط اتفاقية الصخيرات يكون قد تجاوز كل الاتفاقيات التي ترعاها قوى إقليمية ودولية، فالإعلان لم يكن صادماً للأطراف المعارضة له فحسب، بل حتى للقوى والأطراف الموالية له داخلياً وخارجياً، وعلى الرغم من خطورة الخطوة التي اتخذها؛ إذ إنها قد تفضي إلى عزلته داخلياً وخارجياً، كما أنها قد تؤدي إلى سيناريو الحرب الأهلية التي حاولت ليبيا تجنبها منذ سنوات، أصرّ عليها حفتر في محاولة أخيرة له لفرض سلطة أمر واقع، وإن كانت على مستوى شرق ليبيا فقط.
والسبب في ذلك -كما تشير تقارير- هو التحديات السياسية والعسكرية التي فرضها دخول العامل التركي إلى المعادلة الليبية؛ إذ إن كفة الوفاق رجحت، وهو ما خلق تضعضعاً وتصدعاً في الجبهة السياسية والعسكرية لحفتر، ومن ثم هدد قدرته على الاستمرار من خلال الولاء الشعبي الداعم له، أما على المستوى الخارجي؛ فقد أثرت جائحة كورونا في الأطراف الداعمة له إقليمياً ودولياً؛ فمن جهة تعاني المملكة العربية السعودية من الانخفاض الحاد في أسعار النفط، كما أن كلاً من مصر والإمارات -خصوصاً إمارة أبوظبي- تواجهان أزمة اقتصادية حادة من جراء تفشي الفيروس وآثاره، في حين تأثرت كل من إيطاليا وفرنسا بشكل كبير بعد تفشي الفيروس وتأثيره اقتصادياً، وهو ما سينعكس حتماً في المرحلة القادمة على مستوى الدعم الاقتصادي الذي سيتلقاه حفتر من هذه الأطراف، خصوصاً أنه لم يحقق نتائج فعلية ميدانياً.
ردود الأفعال الدولية والإقليمية
نظراً إلى أن إعلان حفتر جاء مباغتاً؛ فقد اتفقت جميع الأطراف، عدا الإمارات، ومن ضمنها تلك الموالية له، في رفضها لهذا الإعلان الأحادي الجانب، ورأت أنه يمثل تهديداً حقيقياً لنجاح أي عملية سياسية في ليبيا، كما أنه قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيم ليبيا، وهو السيناريو الأكثر خطورة الذي تحاول الأطراف الداخلية -خصوصاً- تجنبه منذ البداية.
رفضت الأمم المتحدة قبول إعلان حفتر الأحادي الجانب، وجاء على لسان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، أن “اتفاق الصخيرات هو الإطار الدولي الوحيد للاعتراف بالوضع الليبي”، في إشارة إلى أن حكومة الوفاق الوطني هي الحكومة المعترف بها دولياً، وأكد أن أي تغيير سياسي في ليبيا يجب أن يكون بالوسائل الديمقراطية لا العسكرية.
كذلك فقد ندد البرلمان الأوروبي بإعلان حفتر إسقاط اتفاق الصخيرات، وعدَّه تصرفاً أحادي الجانب وغير مقبول.
وأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أسفها من خطوة حفتر الأحادية الجانب، وأكدت أن أي حل سياسي قادم يجب أن يشمل مختلف الأطراف، ومن ضمنها حفتر.
وبينما قالت إيطاليا: إنها تدعم الشرعية المعترف بها دولياً، وإن أي قرار يخص مستقبل ليبيا يجب أن يتخذ بشكل توافقي، أكدت فرنسا أن الصراع في ليبيا لا يمكن حله من خلال قرارات منفردة بل بحوار تدعمه الأمم المتحدة.
وفي موسكو، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف -في 28 أبريل- على أن بلاده لا تدعم تصريحات حفتر التي قال فيها: إنه هو وحده من سيقرر كيف سيعيش الليبيون، كما لم تدعم موسكو سابقاً رفض الرئيس السراج الحوار مع حفتر.
وكان المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، قال قبل ذلك: إن التسوية الممكنة الوحيدة في ليبيا لن تكون إلا بالطرق السياسية والدبلوماسية، وبمشاركة جميع أطراف النزاع.
وفي أنقرة، قال المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، عمر جليك: إن اللواء الليبي المتقاعد سعى إلى تنفيذ محاولة انقلابية، مؤكداً أن بلاده مستمرة في دعم الحكومة الشرعية في ليبيا، وهي حكومة الوفاق المعترف بها دولياً.
عربياً؛ كان موقف الجامعة العربية أكثر ضبابية وتواطؤاً مع حفتر، فقد أعربت جامعة الدول العربية، في بيان الأربعاء 29 أبريل 2020، عن بالغ انزعاجها حيال التصعيد السياسي والعسكري في ليبيا، داعية أطراف النزاع إلى الالتزام بالمسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وأكدت رفض اللجوء للخيار العسكري، والالتزام بالحوار السياسي بصفته السبيل الوحيد لتسوية الأزمة الليبية.
وأكد المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية تمسُّك بلاده بالحل السياسي وبمبدأ البحث عن تسوية سياسية للصراع في ليبيا، رغم وجود خلافات بين الأطراف الليبية حول كيفية تنفيذ ذلك، حسب تعبيره.
محلياً، عدَّ المجلس الأعلى للدولة الليبي، والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، إعلان حفتر “انقلاباً على المسار الديمقراطي” في البلاد.
انعكاسات إعلان حفتر على الواقع السياسي الليبي
يعد هذا الانقلاب هو الخامس للواء المتقاعد حفتر؛ إذ سبق أن أعلن أكثر من محاولة انقلاب على السلطات الحاكمة في بلاده، حتى في زمن القذافي، غير أن الفرق بين انقلاباته القديمة وانقلابه الجديد بإعلانه إسقاط اتفاق الصخيرات هو أنه في هذه المرة يدفع نفسه للعزلة السياسية، خصوصاً أنه اتخذ هذه الخطوة دون أن يستشير أياً من حلفائه على المستوى الداخلي أو الخارجي.
فسياسياً؛ سيضعف قرار حفتر من قدرة البرلمان الذي يدعمه على المستوى الداخلي، كما أن دعم القوى الإقليمية والدولية -لا سيما الغربية- قد يهتز، خصوصاً أنه أثبت عدم التزامه بالقرارات التي تصدرها تلك الجهات، وذلك ما يحرجها على المستوى الدولي.
أما على المستوى العسكري والأمني، وهو الأخطر، فتشير تقارير دولية إلى أن ليبيا بدأت تدخل مرحلة التقسيم الفعلي بعد إعلان حفتر، الذي يدير شؤون الجانب الشرقي من ليبيا بتفويض شعبي، لكنه لم يحصل على تأييد طرابلس، كما أنه لم يحسم موقفه داخل الساحة الليبية مع أطراف الصراع، وهم مؤثرون سياسياً وعسكرياً، وهو ما يعني استمرار حالة الصراع والاقتتال التي قد تفضي إلى حرب أهلية مزمنة.
خاتمة
على الرغم من أن حفتر أراد بإعلانه إسقاط اتفاقية الصخيرات أن يعزز موقفه العسكري ميدانياً من خلال فرض سلطة أمر واقع، لم يُمنَ إلا بمزيد من الهزائم على المستوى السياسي والعسكري.
فعلى المستوى العسكري تمكنت حكومة الوفاق من التقدم نحو قاعدة الوطية بعدما استعادت، منتصف الشهر الماضي، مدن الساحل الغربي، فانتزعت بذلك من حفتر كل مواقعه غربي البلاد باستثناء القاعدة ومدينة ترهونة، ومن خلال عملياتها الأخيرة بعد إعلان حفتر تمكنت من السيطرة على مناطق قريبة من مدينة ترهونة.
أما في الجانب السياسي، فعلى الرغم من أن الأطراف الموالية لحفتر فرضته على المشهد الليبي بالقوة من خلال التعامل معه على أنه طرف فاعل على المستوى الإقليمي، لم يحترم حفتر أياً من القرارات الدولية، وهو ما يضعفه سياسياً على المستويين الإقليمي والدولي.
ترجح الكفة حالياً لحكومة الوفاق الليبية بفضل الدعم التركي ونتيجة للانشقاقات في الجبهة الداخلية لحفتر، ومع استمرار الأطراف الموالية لحفتر في دعمه، سيستمر مشهد الصراع الليبي، لكن نظراً لتصدع الجبهة الداخلية لحفتر، إضافة إلى هزائمه المتكررة، فلا يبدو أن إعلانه إسقاط اتفاق الصخيرات سيلغي المؤسسات السياسية القائمة في ليبيا كما أراد، لكنه قد يؤثر في الأمن الليبي، خصوصاً أن حفتر يسير في خطة الاستئثار ولو بجزء من ليبيا، وهو ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى تقسيم ليبيا على المدى البعيد.