إن محطتنا التي سوف نحط رحالنا فيها اليوم هي محطة «اكتب»، محطة العلم والتربية، والتزكية والتنمية، محطة الدين والدنيا، والثقافة والمعرفة، ولِمَ لا وهي محطة الكتابة التي تأخذنا إلى عالم مليء بكل العلوم المتنوعة التي يُكتب فيها مما يحفظ علينا ديننا ودنيانا، ويملأ عقولنا وقلوبنا، ونعيش فيها مع آثار الأولين وسِيَر الصالحين، وأحوال المتقدمين وأخبار المعاصرين، كما أنها تحول أفكارنا ومشاعرنا من مجرد فكر وشعور إلى مقال مكتوب، وتنقلها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ومن الخيال إلى الحقيقة، فتجد طريقها لأهلها ومحبيها فتتحقق بها المآرب، وتتواصل بها القلوب ولو لم تلتقِ الأجساد.
إن بطل محطتنا اليوم هو ذلك القلم الذي كرَّمه الله تعالى أيما كرامة، وخلَّد اسمه حيث ذكره صراحة في مقام الامتنان به علينا، وذلك في أول ما نزل من القرآن الكريم، فقال تعالى: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق)، ثم يزداد تكريمه حين سميت به ثاني السور نزولاً في القرآن؛ وهي سورة «القلم»؛ ليشير ذلك إلى تعلم الكتابة وبيان منزلة القلم.
فهل تساءلنا يوماً لنعرف سِرَّ هذا القلم الذي نكتب به، مهما كان شكله أو لونه، ومهما كان قديماً وكيف صار الآن؟ وهل تفكرنا في كرامته وتكريمه؛ حيث إنه الأداة المهمة في كل عصر ومِصْر لطلب العلوم؛ فهو قرين العلماء، وصاحب علمهم، وملازمهم في حِلهم وترحالهم، وليلهم ونهارهم، فبه يسجلون علومهم ويحفظون تراثهم فيتحول إلى إرث لمن بعدهم وصدقة جارية لهم؟
وهل عرفنا حجم المسؤولية الملقاة على عاتق مَن يمسك بالقلم ليكتب به، فيحاسب نفسه ماذا كتب وماذا سيكتب، وكيف كتب ولماذا كتب ولمن يكتب؟! وهل كان قلمه قلمَ هُدى أم قلم ضلالة؟ هل كان قلمه شاهدَ حق أم شاهد زور؟ هل هو قلم عدل أم قلم جور؟ هل كتابته طاعة فتقربه من الله أم معصية تستوجب العقاب؟ هل يُظهِر به الحق أم يحاول طمسه وتشويهه؟ وهل يسرق به حقوق العباد أم يحاول إثباتها؟
أهمية القلم
إن الله تعالى كرَّم الإنسان بالعلم، ويسَّر له أسبابه ووسائله وعلى رأسها القلم، فقد ذكره في القرآن مباشرة بعد ذكر الأمر بالقراءة، وهذا مما يدعو للتدبر؛ فالقراءة والكتابة لا ينفصمان، فقد أمرنا الله تعالى أن نقرأ وعلمنا بالقلم لنكتب! فجعل هذا القلم وسيلة لكتابة العلوم وحفظها من الضياع عبر الزمان، كما جعله سبباً في انتشارها، ولولا أن الله سخر لنا القلم وألهمنا كيف نمسك به وجعله يجري بالكتابة؛ لما كان هناك عِلم ولا توثيق، ولا كُتب ولا مكتبات، ولا كُتَّاب ولا قُرَّاء، ولاندرست العلوم بموت أصحابها، وانتشر الجهل وأحاط بالناس، ولا يتخيل أحد الحياة دون الكتابة.
وقد يعجز اللسان عن الكلام فتحل الكتابة محله، فهي سبيل العلم والعلماء وتجارة المعلمين الأتقياء، وبالقلم كُتبت الآيات البيّنات، وسُطرت به الأحكام والعبادات، به تُحفظ الحقوق والعهود، وبه تُكتب الوصايا والعقود، وتُسجل الشهادات وحقوق العباد، يصل بين القلوب عبر رسائل الناس، ويعبر القارات ببضع كلمات خطها بنان الإنسان، فهو آية من آيات الله تدعو للتفكر، قال ابن القيم: «فقف وقفة في حال الكتابة، وتأمل حالك، وقد أمسكت القلم وهو جماد، ووضعته على القرطاس وهو جماد؛ فتولد من بينهما أنواع الحِكم وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر وجوابات المسائل» (مفتاح دار السعادة، ج1).
إن تعلم الكتابة بالقلم مِنَّة من الله تعالى على عباده، فهو سبحانه «الذي علَّم بالقلم»، قال الطبري: «يعني الخط والكتابة؛ أي علَّم الإنسان الخط بالقلم، وعن قتادة قال: القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دين، ولم يصلح عيش، فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبَّه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو، وما دُونت العلوم، ولا قُيدت الحِكم، ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة؛ ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا»، وقد أدرك ذلك الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه حين قال: «ما مِن أصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحَدٌ أكْثَرَ حَدِيثاً عنْه مِنِّي، إلَّا ما كانَ مِن عبدِاللَّهِ بنِ عَمْرٍو؛ فإنَّه كانَ يَكْتُبُ ولَا أكْتُبُ» (رواه البخاري).
وقد جعل الله الكتابة بالقلم من البيان الذي علَّمه الإنسان، قال تعالى: (الرَّحْمَنُ {1} عَلَّمَ الْقُرْآنَ {2} خَلَقَ الْإِنسَانَ {3} عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) (الرحمن)، قال ابن القيم: «والبيان هنا يتناول ثلاث مراتب كل منها يسمى بياناً؛ أحدها: البيان الذهني الذي يميز به المعلومات، الثاني: البيان اللفظي يعبر بها عن تلك المعلومات ويترجم عنها فيه لغيره، الثالث: البيان الرسمي الخطي الذي يرسم به تلك الألفاظ فيتبين الناظر معانيها» (مفتاح دار السعادة، ج1).
والكتابة لا تقل أهمية عن القراءة، وقد حث النبي على تعلم الكتابة، فقد صح في سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للشفاء بنت عبدالله وهي عند حفصة: «ألا تُعلِّمين هذه رُقية النَّملةِ كما علَّمتيها الكِتابة»، فدل ذلك على مشروعية تعلم النساء للكتابة وحاجتهن لتعلمها، وفي مسند أحمد: «كان ناسٌ من الأسرى يومَ بدرٍ لم يكن لهم فداءٌ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءَهم أنْ يُعَلِّمُوا أولادَ الأنصارِ الكتابة»، وكان للنبي صلى الله عليه وسلم كُتَّاب للوحي منهم الخلفاء الأربعة، وكُتاب لرسائله إلى الملوك، وكُتاب يكتبون أموال الصدقات، ولا أحد ينكر أهمية الكتابة في كل ذلك.
الكتابة بين الماضي والحاضر
إن الكتابة تختلف أداتها في كل عصر عن سابقه، وقد كانت الأقلام قديماً من الخشب تُغمس في المداد (الحبر) ثم تُنسخ بها الكتب المراد نسخها، وما زالت الأقلام تتحسن في شكلها وكتابتها حتى صارت على ما هي عليه الآن، وأصبح منها القلم الإلكتروني الخاص بالشاشات الإلكترونية، كما حَلَّ الأصبع مكان القلم بلمسة على شاشة الهاتف وما شابهه من هذه الأجهزة؛ فسهلت الكتابة، وصار معظم الناس يمارسها ليلاً ونهاراً! فهل يكفي هذا في الكتابة؟ وماذا إذا ما فقدت هذه الأجهزة أو تعطلت؟!
إن من الخطأ الكبير ألا نعلم أطفالنا بداية الإمساك بالقلم والورقة ليبدؤوا أولى خطواتهم مع الكتابة، فالقلم بالنسبة إليهم هو الأصل، لا سيما في المرحلة الأساسية من التعليم، حتى لا يكون عندهم الأمية في الكتابة بالقلم وكيفية احتضانه بين أصابعهم، ثم بعد ذلك يمكنهم التعامل مع الشاشات وقد أتقنوا الكتابة.
وبالرغم من أننا نعيش عصر التكنولوجيا والثورة المعلوماتية، فإنه لا يزال يوجد بيننا محرومون من القراءة والكتابة، منهم من حرم بسبب الحروب التي تتسبب في هدم المدارس وتشريد طلابها وتهجيرهم قسراً! ومنهم من يُحرم لفقره، ومهما كان السبب، فإن على الجميع كل في موقعه أن يشارك في الحد من انتشار الأمية، فقد أكدت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) أن معدل الأمية في الدول العربية لا يزال مرتفعاً بالمقارنة مع دول العالم النامي، مشيرة إلى أن 21% من العرب يعانون من الأمية.
اكتب:
– اكتب بالعربية؛ فهي خير لغة وخير لسان وخير خط، وبها نزل القرآن، ولا تكتب باللغات التي ظهرت هذه الأيام على وسائل التواصل، فلا هي عربية، ولا أجنبية!
– اكتب ما تتعلمه من علم وقَيّده بالكتابة، ولا تقل: إني أحفظه، فالحفظ عرضة للنسيان، وقد قيل: «العلم قَيد والكتابة صيد».
– اكتب وتعلم الكتابة وحسن الخط، وعلّم غيرك، واحتسب ما تكتب عند الله فلولاه ما تعلمنا ولا كتبنا.
– اكتب الرسائل الهادفة نفعاً لغيرك وحفاظاً على وقتك، من كلمة طيبة، ونصيحة صادقة، ولا تكتب الرسائل التي لا فائدة من ورائها.
– اكتب الحق والصدق وكن سبباً في التعريف به، ولا تكتب الشائعات ولا تنشرها فينالك إثمها.
– اكتب لوالديك كلمة بر، ولزوجك كلمة حب، ولولدك كلمة عطف، ولصديقك كلمة وفاء، ولأخيك في الله أنك تحبه فيه.
– اكتب ما تحب أن تُذكر به بعد حياتك، ويكون أثراً صالحاً لك.
– اكتب ما يسرّك أن تراه غداً في صحيفتك، واعلم أنك عن كتابتك مسؤول، وقد قال تعالى: (اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (الإسراء: 14).