د. فتحي أبو الورد
رأيت أن كثيراً من الآراء الفقهية الجديدة التي تعكس حالة الاجتهاد والتجديد الفقهي المعاصر، التي تخالف المعهود والمألوف لدى المقلدين من أرباب الفقه، تثير استغراباً واستنكاراً؛ بل وربما استهجاناً في بادئ الأمر، ثم يظهر بعد ذلك من العلماء من ينتصر لها، ويثبت أقدامها في الوسط الفقهي، ثم تتعاقب الأصوات الفقهية المترددة بالتأييد والتسليم، حتى يصير الرأي الجديد المستغرب بالأمس مألوفاً مقبولاً اليوم، يأخذ به من يشاء، ويدعه من يشاء.
عشرات القضايا
ويكون الفضل في هذه المعركة الفقهية لصاحب السبق، الذي اخترق جدار الصمت، وألقى حجراً في المياه الراكدة، وصدع بما يعتقد صوابه، وما أداه إليه اجتهاده، غير هيابٍ ولا آبهٍ لكثرة المعارضين الذين يتناولونه بالنقد والتجريح؛ بل وربما التشويه.
وقديماً قيل: الإنسان عدو ما يجهل، وهو كذلك أسير المألوف.
وهناك عشرات القضايا المعاصرة -بل المئات- التي بدت غريبة ثم انتصر لها الفقهاء، وأصبحت هي الآراء المفتى بها، من هذه القضايا الفقهية: القول بجواز رئاسة المرأة للدولة بالمفهوم المعاصر، أي الدولة القُطْرية ودولة المؤسسات، وجواز أن تكون قاضية، ووزيرة، وعضوا في المجالس النيابية بالضوابط الشرعية، والقول بأن الشورى في زماننا ملزمة وليست معلمة، والقول بالتعددية السياسية في ظل الدولة الإسلامية، والقول بالقبول بمبدأ تداول السلطة السلمي، والقول بوجوب تحديد مدة رئيس الدولة في عصرنا، والقول بحق غير المسلمين في الترشح للمجالس النيابية، وأن يكون لهم نصيب من المشاركة في الحكم، والقول بأن عقوبة المرتد تعزيرية موكول تحديدها إلى القاضي، وليست عقوبة حدية، والقول بأن عقوبة الخمر تعزيرية وليست حدية، والقول بأن الحاجة لها أثرها في تقدير عقوبة السرقة تخفيفاً، واستبدالاً بعقوبة تعزيرية مناسبة، والقول بمساواة المرأة بالرجل في الدية في القتل الخطأ، والقول بمساواة المسلم بغير المسلم في القتل العمد والدية وعقوبة القذف، والقول بأن المحصن الذي تقع عليه عقوبة المحصن هو من ارتكب جريمة الزنا في ظل زوجية قائمة بالفعل، والقول بجواز إحرام ركاب الطائرة بالحج من جدة، والقول بجواز من نوى الأضحية في عيد الأضحى بالأخذ من شعره وتقليم أظافره في أيام العشر من ذي الحجة، وجواز الأضحية بالعجول في مزارع التسمين دون العامين باعتباره أقل ما قيل، وذلك إذا بلغ الذكور النزو، والإناث الحمل، وسلمت من العيوب، لأنها علة شرعية، وإذا كانت الذبيحة تحمل اللحم، لأنها اعتبارات مقصودة شرعاً، والقول بجواز النزول بالمزدلفة وصلاة المغرب والعشاء فيها جمعاً، ومقدار ما يأكل فيها بعض الطعام ثم متابعة السير، وعدم وجوب المبيت بها، والقول بجواز توسعة المسعى بين الصفا والمروة أفقياً كما جاز رأسياً للحاجة والمصلحة ومراعاة حياة الناس، والقول بجواز رمي الجمار قبل الزوال من الصباح إلى ما شاء الله تعالى من الليل للعلة السابقة، والقول بجواز تنازل المرأة عند الزواج عن بعض حقها في المبيت والنفقة، في بعض الأحوال، في ظل تضامن العائلة، نظرا لحاجتها للزواج، ومراعاة لظروف الواقع من حولها، وواقعها هي، وهو ما عرف باسم زواج المسيار في الساحة الفقهية، ولا عبرة للأسماء متى وضحت المسميات، والقول باعتماد الحساب الفلكي لتحديد بداية الشهور العربية، والقول بحرمة سندات الخزينة التي تلتزم الجهة المصدرة لها خاصة أو عامة بدفع مبلغها مضافاً إليه فائدة، من حيث الإصدار أو الشراء أو التداول؛ لأنها قروض ربوية، ولا أثر لتسميتها شهادات أو صكوكاً استثمارية، أو ادخارية، أو تسمية الفائدة الربوية ربحاً أو عمولة أو عائداً، والقول بأن الحرية فريضة إسلامية، ليست فقط حرية الأفراد، بل وحرية الشعوب بحيث لا يجوز لشعب أن يعتدي على شعب آخر، وللشعب المعتدى عليه أن يرد العدوان بكل السبل الممكنة، وغير ذلك من القضايا الأخرى في أبواب الفقه، خاصة في قضايا التشريع الجنائي، والأسرة، والمعاملات، والفقه السياسي أو ما يعرف بالسياسة الشرعية.
هؤلاء الفقهاء
ومن هؤلاء المجتهدين المجددين في عصرنا، الذين حركوا المياه الراكدة الشيخ محمد عبده، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ محمود شلتوت، والشيخ عبدالوهاب خلاف، والشيخ مصطفى شلبي، والشيخ مصطفى الزرقا، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عبدالله بن زيد آل محمود، ود. محمد سليم العوا، ود. محمد بلتاجي حسن.. وغيرهم.
هؤلاء الفقهاء من الذين ذكروا آراءهم في كثير من القضايا الجديدة، وتحملوا ضريبة الاجتهاد والتجديد في الساحة العلمية، كما تحملوا عبء النقد من البعض، بل والتطاول من البعض الآخر، وإن كنت أؤكد عدم تقديس الأشخاص، وأن كلاً يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم، لكن الاحترام والتقدير واجبان في كل الأحوال، وإن اختلفنا مع غيرنا في قضايا الاجتهاد.
وقد رأيت أن كثيرين من أهل العلم مقتنعون بآرائهم الفقهية، ولكنهم يضنون بسمعتهم العلمية من أن تنال، أو يقال عن أحدهم: الشيخ خرق الاتفاق، أو الدكتور شق عصا الإجماع، كما كان يحكى عن كبار المجتهدين في عصرنا من أمثال الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد أبو زهرة.
وكانوا يتحاشون التشنيع عليهم ممن هم ليسوا في نضجهم الفقهي، ولا في مكانتهم العلمية، ويتحامون إشهار سيف الإجماع في وجوههم، ذاك السيف الذي رفع بغير حق في مواطن كثيرة؛ فحرم الأمة من اجتهادات كثيرة أن تخرج إلى النور لكبار الأئمة، في عصور التراجع الحضاري، والتعصب المذهبي، والجمود الفقهي.
وهذا إفراز الإرهاب الفقهي -إن جاز التعبير- الذي يمارس من البعض ضد كل صاحب اجتهاد جديد في المحيط العلمي، والذي سرعان ما يستغرب مثل هذه الاجتهادات الجديدة التي تخرج عن مألوفه، وما ترسب لديه، دون بحث أو تأمل في حجة الرأي الجديد، ودون احتفاظ للآخرين بحق الاجتهاد، ما داموا من أهله.
وأصعب من ذلك أن ينال من عرض العالم، أو يهال عليه التراب، وينتقص من قدره بسبب اجتهاده، باسم النصيحة في الدين، أو الأمر بالمعروف، أو الغيرة على الإسلام.
إن القرآن الكريم لم يطالبنا في باب الاجتهاد والفكر بأكثر من قوله تعالى: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ) (البقرة: 111)، وأي اجتهاد له دليله فهو معتبر وفق شروط الأصوليين، وهو في نهاية المطاف رأي يدور بين الأجر والأجرين، وإن قبله البعض واعترض عليه آخرون.
____________________________
المصدر: موقع “الجزيرة”.