يبدو أن ما سعى إليه رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي منذ عقود قد بدأ يتبلور ويتشكل في تونس بعد مراحل من الاستئصال والاستثناء والفرز السياسي، وقد استمر الاستثناء والفرز بعد الثورة، لكن الساحة لم تخلُ من عقلاء آمنوا بأن الوطن يتسع للجميع، وأن التنوّع في المرجعيات والأفكار المسبقة التي يحملها كل فصيل سياسي عن الآخر يمكن أن يتجاوزها الجميع بالحوار والتوافق، تلك الميزة التي أنقذت ربيع تونس، وسط قيظ ملتهب.
ويردد البعض مقولة أحد الفلاسفة الذي قالت له امرأة: إن ابني يخاف من الجن الذي يأتيه في المنام، فقال لها: قولي لابنك عندما يأتيه الجن يتحدث معه، وبعد أن تحدث الطفل مع الجن لم يعد يخيفه.
البحث عن التوافق
كانت حركة النهضة قد أسست مع آخرين حركة 18 أكتوبر قبل الثورة، وكان لها علاقات جيدة مع الديمقراطيين بتونس في ثمانينيات القرن الماضي وما بعدها وحتى اليوم، وبعد الثورة عقدت تحالفاً مع حزبين علمانيين شكلت معهما أول حكومة منتخبة انتخاباً حراً نزيهاً وشفافاً في تاريخ البلاد 2012/ 2013م.
وفي انتخابات 2014 شاركت في حكومة لها حزام سياسي واسع من عدة أحزاب (حكومة الحبيب الصيد، ثم حكومة يوسف الشاهد).
وفي انتخابات 2019 شاركت بـ7 وزراء في حكومة إلياس الفخفاخ، وأسقطت الحكومة بعد شبهات تضارب مصالح شابت ممارسات الفخفاخ، ثم منحت الثقة لحكومة المشيشي رغم أنها لم تشكلها، وفي إطار ترتيبات سيكون لها ما بعدها.
مرحلة صعبة
لم تكن حركة النهضة في طريق مفتوح بحثاً عن شركاء لتحمل أعباء الوطن، فلا أحد يملك حلاً سحرياً لمشكلاته، إذ إن الحل السحري يتمثل في التفاف الجميع دون استثناء لبناء مشترك لا يملك أحد الادعاء والزعم أنه الوحيد المعني بإدارة الشأن العام فيه، أو مع مجموعة على شاكلته أو أي تصور بعيداً عن التعاون الجمعي الممثل في الأحزاب والجماعات والجمعيات.
فدائماً هناك من يسعى لتقويض البناء الجمعي للاستفراد بإدارة الشأن العام، كما تفعل الانقلابات تماماً، فقد عمل البعض على الحيلولة دون تشكيل حركة النهضة للحكومة التي ترأسها الحبيب الجملي، التي كان بالإمكان تمريرها، ولو أن التوافق الحاصل اليوم كان قد تشكل آنذاك.
ولولا نكوص بعض من كانوا يحسبون على الثورة وتحالفهم مع الشق الفاشي من مزق الحزب الاستبدادي الذي كان يحكم قبل الثورة، وقد حاول الفاشيون بعد ذلك سحب الثقة من رئيس البرلمان راشد الغنوشي بالتحالف والتواطؤ مع من كانوا يحسبون على الثورة.
تحالف جديد
أثناء التصويت على انتخاب راشد الغنوشي رئيساً للبرلمان في تونس، وقف حزب “قلب تونس” مع حركة النهضة، ورغم أن بعض قادته ليس لهم تاريخ نضالي، وكان بعضهم في النظام السابق، إلا أنهم يؤكدون إيمانهم بالدستور، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلمي على السلطة، وهذا الإيمان كاف بالنسبة للنهضة وائتلاف الكرامة القريب منها (19 نائباً) للتحالف معه.
وقد اعتبر رئيس كتلة قلب تونس أسامة الخليفي، في تدوينة على موقعه على “فيسبوك”، نشرها يوم السبت 5 سبتمبر 2020، أنّ تونس على طريق ما بعد الأيديولوجيا، وأنّ التحالف هو تحالف أغلبية بما لا يقل عن 120 نائباً منتخبون من طرف الشعب رغم اختلافاتهم الأيديولوجية.
وتابع: أيديولوجية هذا الالتقاء هو الانصراف إلى العمل على ما ينفع الناس، وتوحيد الجهود في البرلمان لتمرير القوانين اللازمة لإصلاح ما يمكن إصلاحه والابتعاد عن التوجهات الإيديولوجية العقيمة.
وأكّد أنّه في انتظار استفاقة رفاق الأمس من تعنتهم وفردانيتهم ووهم الزعامة الزائفة الذي أصابهم، وقال: الفرز الحقيقي سيكون بين من يريد خدمة شعبه عبر برامج واقعية تغير ما يمكن تغييره، وبين من يريد خوض معارك أيديولوجية لا تنفع إلا أصحابها وليس للشعب فيها سوى مزيد من الفقر والتهميش والخصاصة.
تائبون ومرتدون
السياسة أيضاً فيها تائبون عن الظلم والاستبداد والتآمر والعمالة والوكالة، وفيها مرتدون عن النضال والشهادة بالحق والانتصار للمظلومين والتعاون على ما ينفع الناس، وكان هذا فحوى ما كتبه رئيس كتلة ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف، في مدوّنة نشرها، السبت الماضي، أيضاً على صفحته الرسمية على “فيسبوك”، وقال: إنّ حزبه يمدّ يده لكلّ من يرغب في بناء تونس الحرة، وبعد الخذلان الذي لقيناه من التيار والشعب، مد لنا حزب قلب تونس في المقابل يديه.
وشرح مخلوف تبدّل المواقع بين من كانوا ثوريين ومن كانوا مستبدين واستئصاليين؛ مدحنا التيار والشعب شهوراً طويلة من أجل استرجاع بريق الثورة، فقابلونا بالتجاهل والتعالي والازدراء، وتفننوا في وصمنا بأبشع النعوت، بل وشاركوا في كل المؤامرات والكمائن التي نصبها مرضى المنظومة البائدة، ورضوا أن يكونوا وقوداً وحطباً لحروبهم.
وأضاف: بالمقابل؛ مد لنا حزب قلب تونس، المنتخب من مواطنين تونسيين مثلنا، يديه من اليوم الأول، ورفض علناً أن ينخرط في جوقة الحقد والاستئصال، وتحمل لأجل ذلك خسارة ما يقارب ثلث كتلته، وأعلن بكل وضوح أنه مستعد لتبني كل استحقاقات الانتقال الديمقراطي، وبتمكيننا من الأغلبية اللازمة لتحقيق ذلك.. فماذا كان علينا فعله يا جهابذة الثورة؟!
وقال مخلوف: هل نمد له يدنا لنواصل الدفاع عن حريّة شعبنا ونستأنف زمن التأسيس بانتخاب المحكمة الدستورية وإصلاح النظام الانتخابي وتحرير الإعلام والاستثمار وتعزيز مناخ الحريّة، أم ننطح مع الناطحين ونطردهم إلى أحضان المجرمين؟
وتابع مخلوف: نعم أيادينا ممدودة لكل من يرغب بصدق في بناء تونس الحرة، وسنبقى سداً منيعاً في وجه كل من يحن لعودة ثقافة الحقد والاستبداد والتخلف، ولسنا مطالبين في أي تحالف سياسي أن نكون مثل حليفنا، ولا أن يكون حليف ائتلاف كرامة مثله، بل فقط سنطالبه بمشاركتنا في الذود عن دولة القانون والحق والحريّة، الدولة التي لا يصنع فيها أحد الملفات القضائية للانتقام من خصمه السياسي، أن يشاركنا البناء وسنحمي حقه في الاختلاف عنا كما يشاء.
وأضاف مخلوف: من لديه ملف، فالقضاء وحده من يقرر مصيره بعد محاكمة تضمن له فيها كل الضمانات والحق في الدفاع.
معالم الغنوشي
وكان رئيس حركة النهضة ورئيس البرلمان راشد الغنّوشي، الذي يكن له قادة ائتلاف الكرامة احتراماً وتبجيلاً خاصين قال: إنّ تونس اليوم في أشد الحاجة إلى الاستقرار وإلى هدنة اجتماعية وسياسية والالتفاف حول الحكومة من أجل تحقيق برنامج إنقاذ وطني.
وأكد الغنوشي، في تصريح على هامش موكب تسليم وتسلم المهام بين الحكومة المتخلّية والحكومة الجديدة، أنّ تونس في حاجة إلى هدنة واستقرار بالنظر إلى التحدّيات الضخمة التي تواجهها، على غرار التحديات الصحيّة والتنموية والمالية.
وأضاف أنّ الاستقرار ضروري لتقدّم البلاد، وأن التداول السلمي على السلطة برفع السبابة (كناية عن غمس السبابة في حبر الانتخابات) وليس برفع الأسلحة، وذلك مظهر من مظاهر النضج والحضارة وستبني عليه تونس التقدّم والازدهار والتشغيل والصحة.
وتابع أنّ تونس اليوم تترسخ فيها ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتوافق، ولذلك سيكون لها غد أفضل.
وبخصوص العلاقة بين مؤسسات الدولة، قال الغنّوشي: كل يعمل في مجاله، والدستور أوضح دور ومهام كل سلطة، ونرى أنّ الجميع يعمل من أجل مصلحة واحدة وهي مصلحة تونس.
وكان الغنوشي قد سعى لضم حزب قلب تونس للحكومة، لكن تعنت رئيس الحكومة السابق الفخفاخ وحزبي التيار الديمقراطي، وبعض الأحزاب حال دون ذلك، وأصبح ذلك متاحاً في المدى المنظور.