سابعًا- استراتيجيات المواجهة ووسائلها ونماذجها:
من المهم الإشارة إلى عدد من الحقائق والمبادئ الأساسية، التي ينبغي الالتفات إليها والإيمان بها، قبل أن نشير إلى خطوات ووسائل مواجهة اختطاف مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، ومن تلك الحقائق:
– قضية تطبيق الشريعة الإسلامية جزء من معركة حضارية، تستهدف استرداد فعالية الحضارة الإسلامية وتحررها استقلالها وريادتها، لتقود العالم كله نحو النهوض وسيادة القيم الإنسانية واستعادة الرحمة فيما بين البشر.
– اختطاف مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية كان يستهدف فرض الهيمنة الغربية على العالم الإسلامي، ومن ثم فإن كل جهد واعٍ وراشد يبذل في اتجاه مقاومة هذه الهيمنة ينبغي أن يصنف ضمن جهود تطبيق الشريعة الإسلامية، حتى ولو لم يعلن أصحابه ذلك، بل وحتى وإن لم يلتفتوا إليه أساسًا، وهذا بالطبع (يفتح الذرائع) لالتئام الجهود نحو مقاومة استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، والإسهام في وقف التناحر حوله فيما بين القوى الوطنية التحررية المختلفة.
– يرجع جانب كبير من استمرارية استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية إلى تغول الدولة الحديثة على المجتمع، ومصادرتها لحقوق المواطنين وحرياتهم، وفرض سيطرتها على المؤسسات الدينية جميعها، وعلى الخطاب الديني، ومن ثم فإن كل خطوة باتجاه وقف تغول الدولة هي خطوة كذلك في سبيل ترسيخ المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية.
– من الضروري النظر للشريعة الإسلامية نظرة تكاملية غير تجزيئية إلا لاعتبارات الدراسة التخصصية وحدها؛ فالشريعة الإسلامية شبكة متكاملة تتكون من عناصر ثلاث متضافرة: عقيدة وأخلاق ومعاملات، وتدرس من منظور قيمي ومقاصدي، وهي إن تأسست في الأصل من الوحي (القرآني والسني)، إلا أنها فهمت وطبقت في العمل بحسب فقه الناس لها، حيث تطورت وتوسعت، حتى اختلط على كثير من الدارسين التفرقة بين النص الشرعي، والفقه المستنبط له، الآخذ عنه، والتطبيقات البشرية التاريخية له، فجعلوا من الشريعة الإسلامية ما ليس فيها، وأدخلوا فيها ما ليس منها، وغفلوا عن بعض ثوابتها لحساب متغيراتها، وأخروا بعض أسسها حرصًا على ثانوياتها وفروعها، حتى تشوش معناها، وانقلبت أولوياتها، واختلت النسب الصحيحة والحقيقية لتكاليفها وما يترتب عليها من ثواب وعقاب، مما يعد اختطاف كامل للشريعة الإسلامية، لم يكن بالضرورة مع سبق الإصرار والترصد، وقد آن الأوان لاعتماد المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية الذي يراعي أن الشريعة ليست قواعد للمعاملات فقط، أو عقوبات شرعية فقط، بل هي من قبل عقائد وأخلاق، كما أنها تستصحب وتستوجب نظمًا معينة، ومؤسسات محددة، وتاريخًا ممتدًا لمئات السنين، ومن ثم فإن غرس العقائد الإسلامية بمعناها الصحيح، ولا سيما عقيدة التوحيد، يدخل ضمن تطبيق الشريعة، وحماية مفهوم الأمة الإسلامية الواحدة وإلقاء الضوء على ماضيها العريق، هو مقاومة لاستلاب تطبيق الشريعة، وإعادة الفعالية للمجتمعات الإسلامية واسترداد الأنظمة المقوية للمجتمع كالوقف الإسلامي مثلاً هو ترسيخ للمفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية.
مرت سنوات عديدة على إقصاء الشريعة الإسلامية عن السيادة التشريعية على الأنظمة القانونية والقضائية العربية، ولم يعد هناك مفر من تشجيع الاجتهاد الشرعي –الفردي والجماعي- وتجديد الفقه الإسلامي، بشرط التخصص، وفقه الواقع، والاستعانة في ذلك بأهل الخبرة في تخصصاتهم ذات الصلة للوصول إلى أحكام شرعية سديدة، تسهم في سد الفجوة الزمنية بين استلاب مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية وبين استرداد المفهوم الصحيح له من جديد، على أن تكون تلك الجهود غير مسيسة، حتى لا يعوق السياسيون والسلطويون مسيرتها ويتحكموا فيها؛ فيغيروا وجهتها ويشخصنوا اجتهاداتها، ومن ثم فيتعين أن يكون تمويلها عن طريق الوقف، أو عبر المجتمع الأهلي بصفة عامة.
– التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية ليس من مسؤولية الدولة وحدها أساسًا، بل هو واجب وجوبًا عينيًا كل فرد مسلم في حدود ما هو مكلف به شرعًا، قبل أن يكون واجبًا كفائيًا على المجتمع، ومن ثم فإن على كل فرد أن يتحرك قدر وسعه لتطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا سليمًا على نفسه وعلى من يعول، على أن يكون حريصًا على أن يكون هو نفسه نموذجًا عمليًا يقتدي به الآخرون في التعامل مع شريعة ربهم وبها، متجنبًا الدعوة اللفظية قدر الإمكان، أو على الأقل لا يعول عليها، لأن القدوة العملية هي الأكثر فاعلية وتأثيرًا على المحيطين.
كما أن العمل الجماعي لأجل غرس الفهم الصحيح لتطبيق الشريعة هو الآخر بالغ الأهمية، لا سيما فيما يتعلق بمجالات التشريع والقضاء والمحاماة، وفي مراكز البحوث والدراسات الشرعية والقانونية، وفي النقابات المهنية..، وهو أمر سيظل متاحًا إذا ما خلصت النوايا وتعمق الفكر.
التركيز على التطبيق الحرفي لأحكام الشريعة الإسلامية في مجتمع مختطف هو اختطاف للشريعة بحد ذاته، وتسخير لها في خدمة فرعون، وتمكين للمتسلطين من الناس، فــ”المواطن العربي يملك نسخة من القاموس الأصلي، ويعرف أن تطبيق الشريعة، يحتاج أولا إلى مجتمع شرعي، وأن الناس الذين يعيشون تحت سلطة فرعونية، لا يملكون مثل هذا المجتمع، وليس بوسعهم أن يطبقوا فيها شريعة أخرى سوى شريعة فرعون. فالقانون الذي يحكم بقطع يد السارق في مجتمع أقطاعي، لا يستطيع أن يسري على جميع الأيدي السارقة، وليس بوسعه أن يحمي الناس ممن يسرقهم علنًا. والقانون الذي يحرم دفع الفوائد المصرفية في نظام إقطاعي، لا يحرم الربا، بل يحارب الادخار…” ([35])، ومن ثم ينبغي أن تبذل الجهود لبناء مجتمع يعي المفهوم الصحيح والعميق لتطبيق الشريعة ويدرك السبل الفعالة للوصول إلى تحقيق هذا الهدف، ويقاوم الطوفان الذي يقصيه هو عن روح الشريعة ومتطلباتها!
وانطلاقًا من هذه الحقائق ومما جرى ذكره من قبل من إشارات وملاحظات حول استلاب مفهوم تطبيق الشريعة ومقاومته، هناك العديد من الوسائل التي قد تخدم ترسيخ المفهوم التطبيق الصحيح للشريعة الإسلامية:
* الاهتمام بالتعليم والتأسيس الشرعي لطلبة العلم منذ بداية التحاقهم بالمدارس وحتى الالتحاق بدراساتهم العليا، على أن يجرى الاعتماد في ذلك على التمويل الأهلي قدر الإمكان، ومراعاة أن تكون المناهج عصرية ومؤصلة شرعية، تهتم بتكوين العقلية العلمية المدركة للنموذج المعرفي الإسلامي، والمتحركة في إطاره، ومن الجيد أن تكون هناك كليات مخصصة للدراسات المقارنة المعمقة بين الشريعة والقانون، تخرج متخصصين في التأصيل الشرعي للقانون، مما قد يسهم في إيجاد حركة كبيرة نحو غرس المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية من الناحيتين النظرية والعملية، عبر رد ما يمكن رده من النصوص القانونية إلى الأصول الشرعية الإسلامية.
* إنشاء مراكز الدراسات والبحوث المستقلة التي ترعى كل ما يتعلق بتطبيق الشريعة الإسلامية بمفهومها الواسع الصحيح، مثل القيام بحصر الأحكام القطعية للشريعة، وتمييزها عن أحكامها الظنية، وكذلك رصد المخالفات الصريحة للشريعة والتبصير بالسبل الصحيحة لمواجهتها، فضلاً عن رعاية الدراسات المقارنة بين الشريعة الإسلامية والقانون وتبني الباحثين النابهين الذين يحملون همَّ تطبيق الشريعة. ويلحق بذلك إنشاء مراكز للدراسات الاجتماعية، ترصد واقع المجتمعات المسلمة والظواهر الاجتماعية البارزة من منظور شرعي حضاري، فتكون بمثابة المبلغ بلاغًا مبينًا حول ما يخدم الشريعة لمراعاته والاهتمام به، وما يخالفها للنهي عنه وتجنبه.
* محاولة إنشاء مؤسسات فقهية وإفتائية مستقلة بعيدة عن التحزب السياسي والمذهبي، مما سيكسبها مهابة واعتبارًا في نظر المسلمين، ويكسبها نفوذًا أدبيًا في أوساطهم، يمكن لها أن تستثمره في غرس المفاهيم الشرعية الصحيحة، ويتيح لها أن تتولى رسم خريطة طريق لاستعادة سيادة الشريعة الإسلامية بتدرج علمي واعٍ، يراعي فقه الأولويات وفقه الموازنات، وفقه الاستطاعة، ويرفع الحرج عن الناس.
* استثمار الثورة التقنية ووسائل التواصل المختلفة في التثقيف الشرعي للمسلمين وتبصيرهم بأحكام دينهم، وبالقواعد الشرعية والفقهية، ولا مانع حينئذ من أن يكون بعضها متخصصًا وموجهًا إلى فئات بعينها، مثل القضاة مثلاً حيث يمكن تعريفهم بكيفية الوصول إلى الأحكام الشرعية عبر شرح ميسر لعلم أصول الفقه، وكذلك الأمر بالنسبة للمحامين والباحثين القانونيين، وهكذا([36]).
* زيادة الاهتمام في الإعلام بقضية تطبيق الشريعة الإسلامية تطبيقًا عصريًا يراعي مقاصد الشريعة وقيمها، كما يراعي أحكامها الجزئية والفرعية، وليس معقولا أنه حتى الآن لم تنشأ ولو (قناة تليفزيونية) واحدة تتخصص في هذا الموضوع، لا سيما أن هناك مادة ثرية لتلك القناة، يمكن استثمارها في إلقاء الضوء على هذه القضية من النواحي التاريخية والسياسية والاقتصادية، مع التعريف بأهم أعلام الشريعة والقانون، عبر إنتاج أفلام وثائقية وعلمية، وسيكون لها –حال التعامل معها بشكل مهني متقن- جماهيرية كبيرة، وخاصة وأنه لا يزال لهذه القضية جاذبية كبيرة عند المشاهدين، فضلاً عن كونها من الممكن أن تسهم بقوة في عملية التثقيف الشرعي التي أشرنا له في الحقيقة السابقة.
* تقديم الدعم المعنوي والمادي إلى المراكز –أو المجالس أو حتى الأفراد- التي تدافع عن حقوق الإنسان وحرياته، وتسعى إلى مقاومة الاستبداد والتبعية والفساد، باعتبار أن الإصرار على تقديم ذلك الدعم يعبر عن الإدراك الصحيح لمتطلبات تطبيق الشريعة الإسلامية ولمستلزماته، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ناهيك عن أن التبعية والاستبداد والفساد وقهر الإنسان هو من أظهر محرمات الشريعة الإسلامية التي يتعين العمل بجد للتخلص منها.
وختامًا:
فإن هذه الدراسة قد سعت إلى تقديم أفكار بنائية لمقاومة اختطاف المفهوم الصحيح لتطبيق الشريعة الإسلامية، واستهدفت أن تكون تلك الأفكار غير تصادمية لا سيما في ظل الوضع الحالي المناهض للإسلام ولشريعته ولتاريخه كله، كما حاولت مراعاة المنطق العملي قدر الإمكان داعية إلى الحد من تسييس قضية تطبيق الشريعة الإسلامية والنظر إليها بدلاً من ذلك من منظور حضاري شامل يجمع بين أطياف الأمة المختلفة، فهل ستجد مجيبين يدركون أن الوعي والسعي أجدى وأثمر من لطم الخدود والبكاء على الأطلال والدخول في صراعات غير متكافئة تؤدي إلى هزائم متكررة، حضارية وفكرية وسياسية واقتصادية؟!
والله المستعان.
—–
([35]) راجع: الصادق النيهوم، الإسلام في الأَسر- من سرق الجامع وأين ذهب يوم الجمعة، لندن، قبرص، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثانية، فبراير 1993م، ص123.
([36] يمكن الرجوع في هذا الشأن إلى الفكرة التي شرحها المستشار طارق البشري في دراسته المعنونة “منهج النظر في دراسة القانون مقارنًا بالشريعة”، التي قدمها في ندوة انعقدت بجامعة قطر في ديسمبر سنة 1995، ونُشرت بصحيفة الحياة اللندنية على ثلاث حلقات في الأسبوع الأول من مارس 1996 ثم نُشرت بعد ذلك ضمن كتابه: في المسألة القانونية المعاصرة- الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي، القاهرة، دار الشروق، ط1، 1417هـ/1996م، ص115-135.
——
(*) باحث مصري مهتم بدراسة الشريعة الإسلامية وتطبيقاتها في الدساتير والقوانين المعاصرة، حاصل على الدكتوراه في القانون العام والشريعة الإسلامية.
والمقال من بحث محكم منشور في مركز “رؤيا للبحوث والدراسات.