بعد حوالي ثلاثين عاماً في العمل بإحدى شركات قطاع الأعمال المصري، أُجبر عصام على التقاعد المبكر في ظل عمليات إعادة هيكلة القطاع العام وقطاع الأعمال التي تحدث حاليا في مصر.
ويتمثل مصدر دخل عصام منذ تقاعده عام 2016م في معاشه الشهري الذي يتقاضاه بالإضافة إلى عوائد مكافأة نهاية خدمته التي قام بإيداعها كشهادة ادخار بأحد البنوك الحكومية.
يقول عصام لـ”بي بي سي”: “شهادات الـ 20 % كانت توفر ريعا ليس سيئا، يمكّنني من مواجهة تكاليف الحياة المتزايدة كل يوم. بعدما توقفت تلك الشهادات، قمت العام الماضي بشراء شهادة جديدة بعائد 17 %. واستطعت التكيف مع النقص الذي تبع هذا العائد المنخفض. لكن الشهادة ستنتهي العام القادم ولا أعلم كيف سأتعامل حين ذاك”.
ويتقاضى نحو 11 مليون شخص في مصر معاشات حكومية، ومعظمهم لا يملك مصادر أخرى للدخل.
وكان البنك المركزي المصري أعلن الشهر الماضي تقليص أسعار الفائدة لتصبح 9.75 % للإقراض، و8.75 % للإيداع، لتصبح هذه هي المرة الثانية عشرة التي حرك فيها المركزي سعر الفائدة منذ تحرير سعر صرف الجنيه المصري في نوفمبر عام 2016م.
وصاحَب قرار تقليص الفائدة، إعلان عدد من البنوك الحكومية إلغاء شهادات الادخار ذات العوائد المرتفعة؛ حيث أعلن بنكا مصر والأهلي إلغاء شهادات الاستثمار ذات عائد الـ 15 %، والتي كانت تمنح أعلى عائد في مصر.
وكانت البنوك المصرية قد بدأت في إصدار تلك الشهادات منذ عام 2016م بفوائد بلغت في بعض الأوقات 20 % قبل أن تبدأ في تقليص الفوائد بالتدريج، لتصبح أعلى نسبة فائدة مقدمة حالياً هي أقل من 12.5 %.
التضخم ونسب الفائدة
ويُرجع المركزي قرار تخفيض الفائدة إلى تراجع الضغوط التضخمية؛ حيث أن المعدل السنوي للتضخم انخفض ليسجل 3.4 % في أغسطس من العام الجاري، وهو ثاني أقل معدل مسجَّل منذ ما يقرب من أربعة عشر عاماً.
لكن عصام يرى أن هذه الأرقام لا علاقة لها بالواقع، حيث يقول لـ”بي بي سي”: الحكومة تقول إن الاقتصاد في تقدُّم، ويخرج علينا المسؤولون دائماً بأرقم مبشرة. لكنني لا أرى أيا من هذه المؤشرات في المحلات التي أشتري منها لوازم المنزل، ولا أراها في مصاريف مدرسة طفلي، وكل ما أراه هو أسعار متزايدة وضرائب جديدة كل يوم.
ويقول الخبير الاقتصادي مدحت نافع: إن المتضرر الأول من إلغاء هذه الشهادات وتقليل أسعار الفائدة سيكون القطاع العائلي وصغار المودعين من أمثال عصام.
ويضيف نافع لـ”بي بي سي”: “الحلول أمام القطاع العائلي لحفظ قيمة الأموال محدودة للغاية، خاصةً في ظل ارتفاع أسعار العقارات والذهب اللذين كانا يُعتبران أهم أوعية الاستثمار لهذا القطاع.
أما نعمان خالد، أحد الخبراء الاقتصاديين الذين توقعوا تخفيض سعر الفائدة، فيرى أنه في هذه الحالة ستصبح صناديق الاستثمار هي الحل الأكثر فاعلية للمواطن العادي الراغب في الحفاظ على قيمة مدخراته.
وتُعرف صناديق الاستثمار بأنها وعاء من المال يشارك في ملكيته مجموعة من المستثمرين، وتتم إدارته من قبل مُتخصصين في مجال الاستثمار المالي، والذين يتخذون قرارات البيع أو الشراء لمجموعة من الأوراق المالية، مثل السندات والأسهم.
ويضيف خالد لـ”بي بي سي”: “صناديق الاستثمار قادرة على توفير عائد أكبر للقطاع العائلي بالمقارنة بأسعار الفائدة الحالية، كما أنها ستساهم في تنشيط البورصة، خاصة وأن هذه الصناديق لا تزال تقدم فائدة حقيقية أعلى من نِسب التضخم المعلنة.
لكن مصدراً رفيع المستوى بالقطاع المصرفي المصري رفض ذكر اسمه، قال لبي بي سي إن الإقبال على الاستثمار في هذه الصناديق ليس كبيرا، مبررا ذلك بعدم ربحية هذه الصناديق في قطاع التجزئة بالبنوك مما يدفع العاملين بالبنوك للترويج لمنتجات أخرى على حساب صناديق الاستثمار.
وطبقاً للبنك المركزي المصري، فإن القطاع العائلي يستحوذ على 81.9 % من إجمالي ودائع البنوك العاملة في السوق المصرية بنهاية شهر مارس 2020م.
تشجيع الاستثمار
أصبح عصام، الذي “اضطر” للتقاعد مبكراً على حد تعبيره، يبحث الآن عن فرصة عمل جديدة تساعده على استعادة ما خسر من دخله الشهري، الأمر الذي يرى البعض أنه ربما يصبح أسهل نسبيا في المستقبل القريب مع تقليص الفائدة على الإقراض.
ويرى علاء تامر، وهو رجل أعمال مصري، أن تخفيض الفائدة على الاقتراض من شأنه أن يساهم في تنشيط الاقتصاد المصري.
ويقول تامر لـ”بي بي سي”: عندما تنخفض كلفة الاقتراض سيشجع ذلك المستثمرين على الحصول على قروض من البنوك لضخّها في صورة مشاريع استثمارية، بما سيخلق فرص عمل جديدة وحالة نشاط في الاقتصاد المصري خاصة في المجالات الخدمية.
من جانبه، يرى مدحت نافع، الذي شغل سابقا منصب رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات القابضة، أن الفائدة الضخمة على الشهادات كانت كفيلة بسحب السيولة من السوق.
ويقول نافع: 20 في المئة فائدة على الشهادات هي أكبر من أي صافي ربح قد يحققه أي مشروع تجاري؛ ففي ظل وجود تلك العوائد الضخمة لن يكون هناك مبرر لأي مستثمر لكي يغامر في أي نشاط اقتصادي.
وكان البنك المركزي المصري أعلن أن إجمالي الـتسهـيلات الائتمانية الممنوحة مـن الـبنـوك قد ارتفع خلال النصف الأول من عام 2020م بنسبة 16 % عن الفترة نفسها من العام الماضي.
الأموال الساخنة
بالإضافة للآثار المباشرة على المواطن المصري كمستثمر أو كمودع، يتخوّف كثيرون أن يتسبب خفض نِسب الفائدة على الإيداع والإقراض في خروج “الأموال الساخنة” من السوق المصرية بما قد يؤثر على الاقتصاد المصري بشكل عام.
ويُقصد بـ”الأموال الساخنة” استثمارات الأجانب في أدوات الدين الحكومية والأسهم بالبورصة. وتوصف بـالساخنة نظرًا لسرعة دخولها وخروجها من الأسواق بحثًا عن الربح الأكبر.
لكن نعمان خالد، محلل الاقتصاد الكلي في شركة أرقام كابيتال، يرى أن هذا التخوف ليس في محله.
يقول خالد: “لا تزال مصر هي أفضل خيار لتلك الأموال حتى مع أسعار الفائدة المنخفضة. الأسواق المنافسة لنا كـتركيا أو نيجيريا لا تتمتع بالثبات والاستقرار الذي يتمتع به السوق المصرية حاليا”.
وأعلنت مصر منذ أيام عن ارتفاع احتياطي النقد الأجنبي إلى 38.425 مليار دولار في نهاية سبتمبر الماضي قادما من مستوى 38.366 مليار دولار في نهاية أغسطس، وكان الاحتياطي المصري تجاوز خمسة وأربعين مليار دولار قبل تفشي وباء كورونا في مارس الماضي.
خدمة الدين
يرى المحلل الاقتصادي علاء عبد الحليم أن أسباب تحريك سعر الفائدة متنوعة، لكن في الوقت الحالي تحريك سعر الفائدة يصب في مصلحة الحكومة في المقام الأول فهي أكبر مستدين في السوق.
يقول عبدالحليم: ” تكلفة الاقتراض حاليا انخفضت إلى مستويات أقل مما كانت عليه قبل قرار تحرير سعر الصرف، هذا الانخفاض الكبير في الفائدة على الاقتراض سينعكس إيجابًا على الموازنة العامة للدولة وتقليص العجز، كما سيساهم في تقليص فاتورة خدمة الدين.
وتستهدف الحكومة المصرية في موازنة العام المالي 20/ 21 أن يصل العجز الكلي لـ 6.3 % من الناتج المحلي الإجمالي، بينما تبلغ تقديرات فوائد خدمة الدين العام المطلوب سدادها لنفس العام المالي حوالي 33 % مـن إجمالي المصروفات في مشروع الموازنة.
ويرى نعمان خالد أن معدلات التضخم أصبحت أقل من المستهدف من قِبل المركزي، بما يجعل احتمالية تخفيض الفائدة مرة أخرى في المستقبل أمراً وارداً.
ويقول خالد لـ”بي بي سي”: “ارتفاع معدلات التضخم ليس بالضرورة أمرا سيئا. العمل على عودة السيولة للسوق مرة أخرى لترتفع نسب التضخم للمعدلات المستهدفة هو أمر صحي للاقتصاد بشكل عام”.
ويعتبر الاقتصاد المصري أحد الاقتصادات القليلة في المنطقة التي تمكنت من تحقيق نمو قدره اثنين في المئة خلال الربع الأول من العام المالي 20/ 21 طبقا لتقدير العديد من الهيئات والوكالات الدولية؛ حيث توقع البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير أن يصل النمو في مصر إلى 3.3 % في السنة المالية 2020/ 21، كما توقع البنك ذاته أن ينتعش معدل النمو ليصل إلى خمسة في المئة في العام المالي القادم.