استخدم نظام بشار الأسد في سورية كل ما بحوزته من آلة فتك عسكرية في مواجهة انتفاضة الشعب السوري الجماهيرية التي طالبت بالحرية والديمقراطية عام 2011، بعد أن تسبب القمع والإرهاب الذي مورس ضد المنتفضين والمتظاهرين سلمياً، في عسكرة الثورة لمواجهة قمع النظام.
وبعد أن حققت المعارضة انتصارات ساحقة على النظام في الميدان، لجأ إلى أسلحة الإبادة الجماعية الكيماوية التي طورها برعاية غربية، لتحقيق خسائر فادحة في صفوف المدنيين اضطرت معها المعارضة للتراجع، وفي أغسطس 2013 هوجمت الغوطة الشرقية بمادة السارين ما أدى إلى مقتل 1200 من سكانها خنقاً في ساعة واحدة.
العالم الذي يتفرج على مجازر الشعب السوري لم يكن له أن يقف صامتاً أمام حجم وفظاعة الجريمة المرتكبة، لذلك كُلفت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بتدمير مخزون النظام من الأسلحة الكيميائية، وفي عام 2018 أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا أن المهمة أنجزت، بناء على تقارير صادرة عن المنظمة ذكرت فيها أنها أنجزت المهمة على مرحلتين؛ الأولى في عام 2014 وشملت ترسانة النظام من المواد الكيميائية المعروفة بالنسبة للمنظمة، وفي عام 2018 شملت مواقع الإنتاج الـ27 التي اقر بها النظام في البيان الذي قدمه لمنظمة حظر الأسلحة.
الخدعة الكبرى
الهجمات بالأسلحة الكيميائية على المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة استمرت بعد إعلان إنجاز المهمة عام 2013، ففي أبريل 2017 على سبيل المثال قتل 200 شخص اختناقاً بغاز السارين، الذي كان يفترض أنه تم تدميره ولم يعد متوفراً في ترسانة النظام في منطقة خان شيخون، وهو ما يؤكد أن ثمة خديعة كبرى مارسها النظام إزاء المجتمع الدولي، ولعل دولاً كبرى داعمة له تواطأت معه بهذا الملف.
تقرير “الغوص في أسرار البرنامج الكيميائي السوري” المؤلف من 90 صفحة، أعدته “مبادرة العدالة للمجتمع المفتوح” الأمريكية، و”الأرشيف السوري” وهو أحد مشاريع منظمة “Mnemonic”، وتم تقديمه رسمياً الإثنين الماضي إلى الهيئات الدولية، كشف بالأدلة والشهود كيف تمكن نظام الأسد من خداع العالم، وإخفاء أسلحته الفتاكة.
التقرير الذي نشرت تفاصيله صحف غربية يوم الثلاثاء الماضي، ومنها صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية ذكر أن البرنامج الكيميائي للنظام تم تطويره في معهد “البحوث العلمية” السوري بمساعدة العديد من الدول الأجنبية، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، بدأ في منتصف الثمانينيات تحت إشراف جهاز المخابرات الجوية.
وأشار إلى أنه في ليلة 25 سبتمبر 2013، أي قبل خمسة أيام من وصول محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى سورية، نقلت احتياطيات الأسلحة الكيميائية في “معهد 1000″، أحد الأقسام الرئيسة في “مركز البحوث العلمية”، إلى مستودعات قاعدة اللواء 105 للحرس الجمهوري الواقعة على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة دمشق.
واستند التقرير إلى تحليل المصادر المفتوحة، واستخدام البيانات المستمدة من سجلات الأمم المتحدة، وإلى شهادات 50 مسؤولاً سورياً انشقوا في السنوات الأخيرة، شغلوا مناصب عديدة في “مركز الدراسات والبحوث العلمية”.
التحليل استند كذلك إلى تقرير نشره موقع “زمان الوصل” المعارض، الذي لم يلاحظه أحد في نوفمبر 2017، ذكر فيه أن النظام قام بتضليل محققي منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والحفاظ على القدرة الهجومية في المجال الكيميائي، عن طريق نقل جزء من مخزون الأسلحة والمواد الفتاكة إلى قواعد الحرس الجمهوري، وقام بملاحقة وسجن عدد من الموظفين الذين كانوا شهوداً على هجماته الكيميائية، وفي بعض الحالات تم التخلص من الموظفين المشتبه فيهم، كما قام بإنشاء قناة سرية لاستيراد المنتجات السامة مثل غاز السارين.
وكشف الموقع المعارض وثيقة هي عبارة عن رسالة من مسؤول “معهد 1000” صادرة بتاريخ 19 سبتمبر 2013 يأمر فيها رئيس الأمن في “معهد البحوث العلمية” بتنسيق نقل الأسلحة، هذه المعلومة أكدها الضباط المنشقون الذين سُئلوا عن هذه الوثيقة، وأشاروا إلى أن حوالي 50 جندياً نفذوا عمليات نقل المخزون من الأسلحة ليصبح غير قابل للكشف.
كما كشف التقرير الحقوقي أنه ومن خلال التحقق من قاعدة بيانات “كومتريد”، وهو سجل تجاري ضخم تحتفظ به شعبة الإحصاءات في الأمم المتحدة، اكتشف المحققون عن معلومات تتعلق بآليات تزويد “معهد البحوث العلمية” بالمواد الكيميائية، مشيراً إلى أنه بين عامي 2014 و2018، تم تصدير 69 فئة من المنتجات التي يحتمل أن تخضع للعقوبات في سورية من 39 دولة مختلفة، بما في ذلك 15 دولة أوروبية.
ويحدد التقرير شركات مقرها بلجيكا وألمانيا وهولندا وسويسرا تواجه عقوبات قانونية لانتهاكها قيود الاستيراد المفروضة على سورية، كانت قد أرسلت شحنات من مركب “الأيزوبروبانول” الذي استخدمه النظام في صنع السارين.
وأشار التقرير إلى أن النظام وبرغم حصوله على بعض المركبات العضوية التي تستخدم في تصنيع غاز السارين، فإنه لا يستطيع صناعة هذا الغاز السام إلا من خلال حصوله على مركّب آخر هو “ميثيل فوسفونيل دفلورايد”، وهو مركب فوسفور عضوي، ومركب “هيكسامين”، وهذا الأخير يقوم النظام بإنتاجه محلياً، لكن في الوقت الحالي لا يعرف أحد كيف يحصل النظام على مركّب “ميثيل فوسفونيل دفلورايد” ولا مكان تخزينه، وهذا أحد الألغاز، التي لا تزال مجهولة، عن معهد “البحوث العلمية”.
تصفية الخبراء
لم يكتف نظام الأسد بمخادعة المجتمع الدولي فيما يخص ترسانته الكيماوية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك حيث أقدم على سجن وتصفية الخبراء الذين يعملون معه في معهد “البحوث العلمية”، الذين اشتبه أو شك في ولائهم وخشي من قيامهم بتسريب وثائق تتعلق بسلاحه الكيماوي للخارج.
وينقل التقرير عن أحد المنشقين قوله: إن الإشراف على الموظفين في معهد “البحوث العلمية” من قبل بسام الحسن، عين بشار الأسد داخل المعهد، ويوسف عجيب، مدير أمن المركز، ساهم بوقف انشقاق الموظفين ونشر المعلومات السرية، حيث طبقت إجراءات أمنية صارمة، وتم مطاردة المسؤولين وموظفين الذين تثار حولهم الشكوك، والتخلص منهم في بعض الأحيان.
وقال شاهد آخر في التقرير: إن موظفين كثراً قتلوا أو ماتوا في السجن أو اختفوا، وفي عام 2010 تم إعدام مهندس المركز أيمن الهبلي، من قبل النظام بتهمة تقديمه معلومات إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
وأشار التقرير إلى ثلاث حالات أخرى من عمليات التخلص من الشهود داخل المعهد منذ عام 2011، ومن بين أولئك المدير السابق لـ”معهد 4000″ محمود إبراهيم الذي قتل في عام 2015، إما بسبب الشكوك حول ولائه، أو لأنه عارض النفوذ الإيراني المتزايد على المركز.