شهدت أوروبا في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب نكسة كبرى في الشرق الأوسط، وهي تسعى اليوم إلى تجاوزها عبر سياسة التحالف مع إدارة بادين في معالجة ملفات ساخنة.
تغير موازين القوى في الشرق الأوسط
ففي المرحلة السابقة، كان دور أوروبا مهمّشاً، وهذا التهميش كان جلياً من خلال إمساك ثلاث قوى غير عربية بقانون اللعبة في المنطقة، وهي إيران وروسيا وتركيا، التي استطاعت أن تفرض موازين قوى جديدة، كان من أهم تداعياتها إقصاء الطرف الأوروبي، وقد استفادت هذه الدول الثلاث من الانسحاب الأمريكي من سورية، في أكتوبر 2019، مما ترك لها المجال مفتوحاً لتعزيز دورها الإقليمي على حساب الدور الأوروبي، ونتيجة لذلك، حولت موسكو وطهران ميزان القوى في سورية لصالح نظام دمشق، كما تمدد نفوذ إيران في كل من سورية والعراق ولبنان (حزب الله) واليمن (الحوثي)، وتمدد النفوذ الروسي في المنطقة بل وصل إلى أفريقيا وليبيا (مساندة حفتر)، بينما ركزت أنقرة، بعد دعمها لقوى مقاومة مختلفة ضد النظام السوري، على إنشاء منطقة عازلة، مما سمح لها بدفع المليشيات الكردية إلى شمال سورية والعراق، وتخشى أوروبا أن تعاني من عواقب الهجرة الجماعية للسكان الناجمة عن العمليات العسكرية الجارية في إدلب وفي شمال سورية، حيث يوجد حوالي 2.5 مليون سوري محاصرين، كما تنامى الدور التركي في شرق البحر المتوسط، وأحدث قرار تركيا بالتنقيب عن الغاز في تلك المنطقة أزمة مع اليونان وبالتالي مع الاتحاد الأوروبي، علاوة على السند الكبير الذي قدمته تركيا لحكومة السراج الشرعية في طرابلس عاصمة ليبيا وتمدد نفوذها أفريقياً خاصة في منطقة القرن الأفريقي، وآسيويًا على حدود الصين.
سياسة ترمب كارثة على مصالح أوروبا في الشرق الأوسط
ويمكن القول: إن عهد ترمب كان كارثة على أوروبا وعلى مصالحها في الشرق الأوسط، وخاصة من خلال ملفين مهمين؛ القضية الفلسطينية، والملف النووي الإيراني.
في الملف الأول، اتخذ ترمب قراراً خطيراً أحادياً بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، بما يعني نسف الجهود الأوروبية الساعية إلى مسك العصا من الوسط، والدعوة إلى حل توافقي يقوم على فكرة الدولتين، وإذا كانت تداعيات السياسة الأمريكية الأحادية في الملف الفلسطيني ذات بعد سياسي دبلوماسي، فإن تداعيات سياسة ترمب في الملف الإيراني أبعد من ذلك، لأنها تمس المصالح الاقتصادية والإستراتيجية للاتحاد الأوروبي.
فقد كان حلم أوروبا توظيف الاتفاق مع إيران لتحقيق أرباح كبرى من خلال الاستفادة من السوق الإيرانية، وللعلم؛ فإن التجارة بين الاتحاد الأوروبي وإيران ازداد حجمها من 7.7 مليار يورو في عام 2015 إلى 13.8 مليار يورو في عام 2016، ثم إلى 21 مليار يورو في عام 2017، لكن بعد أن رفع ترمب شعار “أمريكا أولاً”، واتخذ الكثير من القرارات الأحادية، أهمها الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني عام 2018؛ انكمشت التجارة بين الاتحاد الأوروبي وإيران منذ عام 2018، في ظل التداعيات المباشرة وغير المباشرة للعقوبات الأمريكية على الشركات المتعاملة مع إيران، حيث انخفض إجمالي حجم مبيعات الاتحاد الأوروبي لإيران من 10.8 مليار يورو في عام 2017 إلى 8.9 مليار يورو في عام 2018 (-18%) وسجل الميزان التجاري بين الاتحاد الأوروبي وإيران عجزًا قدره 547 مليون يورو في عام 2018.
“التحايل” الأوروبي لتجاوز العقوبات الأمريكية
أمام هذا الوضع، اضطرت أوروبا إلى “التحايل” على آثار العقوبات الأمريكية، من خلال إنشاء شركة، في 31 يناير 2019، برئاسة الدبلوماسي الألماني مايكل بوك باسم INSTEX (اختصار اللغة الإنجليزية لـ Instrument in Support of Trade Exchanges) (أداة لدعم التبادل التجاري) من قبل الثلاثي الأوروبي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة (يُشار إليها باسم مجموعة “E3”)، وتسمح هذه الآلية للشركات الأوروبية بالتجارة مع الشركات الإيرانية دون اللجوء إلى الدولار، حيث تم تحديد المجال التجاري بين الطرفين في البداية إلى الضروريات الأساسية مثل الغذاء والدواء، ومكنت هذه الآلية من تخفيف الخسائر التجارية الأوروبية، خاصة وأنه قد انضمت، في 29 نوفمبر 2019، إلى عضوية الشركة 6 دول أوروبية أخرى، وهي: بلجيكا والدنمارك وفنلندا وهولندا والنرويج والسويد.
لكن أوروبا لم تكن مواقفها موحدة في قضية التعامل مع الطرف الإيراني بين من يميل إلى ترك جسور تواصل معه وبين من يميل إلى التوجه الأمريكي في معاقبتها، كما أن المنافسة التجارية بين دول الاتحاد الأوروبي خاصة الدول الكبرى من بينها كانت كبيرة على السوق الإيرانية، واستغلت الولايات المتحدة الأمريكية الخلافات الداخلية بين الأوروبيين لتنظيم “مؤتمر لتعزيز السلام والأمن في الشرق الأوسط” موجهًا ضد إيران، وذلك في فبراير 2019 بعاصمة بولندا وارسو.
وكل هذه العوامل ضاعفت من تهميش الدور الأوروبي الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وتعقّد الأمر مع التصعيد الأمريكي في عهد ترمب ضد إيران، متمثلاً في تشديد الضغوط والعقوبات عليها وخنق اقتصادها، ومحاصرة نظامها بما يضعف الدعم للحرس الثوري الإيراني العمود الفقري لهذا النظام، وتصعيد التهديدات العسكرية ضدها عن طريق نشر قوة عسكرية أمريكية في المنطقة، وبلغ الأمر ذروته باستهداف أحد رموز النظام الإيراني الجنرال قاسم سليماني، في 3 يناير 2020، الذي قُتل في العراق في عملية عسكرية أمريكية.
ونتج عن هذه السياسة التصعيدية توتر كبير في المنطقة، وتداعيات لا تخدم المصالح الأوروبية، ومن بينها تعزيز خط النظام الإيراني الأكثر تشدداً والرافض أصلاً للاتفاق، وتشجيع طهران ودفعها لاستئناف أنشطتها النووية، مع المخاطرة بإحداث أزمة انتشار نووي في المنطقة، ويؤكد ملاحظون أن عملية تخصيب اليورانيوم تطورت في إيران التي اقتربت من مرحلة امتلاك السلاح النووي، وربما هناك تضخيم مقصود لهذا النشاط النووي الإيراني من أجل تبرير التواجد العسكري الأمريكي لحماية الحلفاء في المنطقة ضد التهديدات الإيرانية، علاوة على نقص منسوب الثقة بين إيران والأطراف الغربية عموماً، علماً بأن عنصر الثقة هو العامل الأساسي الذي أتاح التوصل إلى اتفاق مع جمهورية إيران الإسلامية.
الأمل في العودة إلى أجواء عام 2015
واليوم، مع وصول الديمقراطيين إلى السلطة في الولايات المتحدة، فإن الآمال معقودة على إدارة بايدن للقيام بمراجعات في السياسة الأمريكية تجاه الملف الإيراني بما يسمح بفتح المجال من جديد أمام أوروبا ليكون لها موضع قدم في الشرق الأوسط.
والكل يعلم أنه ليس من السهل العودة إلى أجواء عام 2015، عندما توصلت القوى الكبرى بعد أكثر من عقد من التوترات إلى اتفاق مع إيران حول الملف النووي، في إطار ما يسمى “اتفاقية فيينا بشأن الطاقة النووية الإيرانية” أو خطة العمل المشتركة أو خطة العمل الشاملة المشتركة (JCPoA)، وقد تم التوقيع على هذه الاتفاقية بمقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية بالنمسا، وذلك بتاريخ 14 يوليو 2015، من قبل الأطراف الثمانية التالية: الأعضاء الخمسة الدائمون في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة (الولايات المتحدة وروسيا والصين وفرنسا والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا)، وكذلك الاتحاد الأوروبي وإيران، والغرض من هذه الاتفاقية الإطارية هو ضبط البرنامج النووي الإيراني ورفع العقوبات الاقتصادية التي تؤثر على طهران، وتندرج هذه الاتفاقية في إطار خطة عمل عالمية مشتركة (PAGC).
وكان للاتحاد الأوروبي دور كبير في التوصل إلى هذا “الإنجاز الكبير” الذي تم الترحيب به دولياً، وفي بداية عام 2017، صادقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على الالتزامات الإيرانية وأعطت الضوء الأخضر لرفع العقوبات.
لكن بعد ثلاث سنوات من الاتفاقية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، في 8 مايو 2018، انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية فيينا مع قراره بتسليط “أعلى مستوى ممكن من العقوبات الاقتصادية” ضد إيران، فنسف بذلك سنوات من التفاوض والحوار الصعب مع طهران.
الوساطة الأوروبية بين واشنطن وطهران
ولهذا، يبدو أن العلاقات الأمريكية الإيرانية لن تتحسن بالشكل السريع، فهناك إرث سياسة ترمب الثقيل ولا يمكن العودة إلى طاولة التفاوض بسهولة في ظل القفزات التي حققتها إيران في اتجاه تطوير برنامجها النووي، مستغلة الصراع مع ترمب وسياسته التصعيدية ضدها، وقد اعتادت سياسة طهران على استخدام الطرف الأوروبي كأداة ضغط على واشنطن، لأنها تدرك حرص الأوروبيين على مصالحهم في منطقة الشرق الأوسط إلى حدّ التنافس بينهم على السوق الخليجية والشرق أوسطية، وقد صعّد ماكرون ضغطه على إيران لكي تقبل بإشراك السعودية في المفاوضات، لأن باريس تريد توظيف التحولات في منطقة الخليج (المصالحة) لحماية مصالحها في كل من السعودية التي تصالحت مع قطر وكذلك مع إيران التي تأمل في رفع العقوبات عنها بما يفتح المجال واسعاً أمام الاستثمار الأجنبي فيكون لأوروبا نصيب الأسد.
في هذا السياق، انتهزت أوروبا التقارب بينها وبين إدارة بايدن لتعبّر عن استعدادها لقيام بجهود الوساطة بين واشنطن وطهران، ويلتقي هذا التوجه الأوروبي مع الرغبة الإيرانية في الوساطة الأوروبية للتوصل إلى اتفاق حول الملف النووي في أقرب وقت من أجل رفع العقوبات، لكن التخوفات قائمة فيما يتعلق بالنوايا الإيرانية في موضوع التسلح النووي، وفي موضوع تمددها الإقليمي التوسعي على حساب إرادة الشعوب التي تريد التحرر من سياسة الهيمنة السياسية والعسكرية بخلفيات مذهبية.