عبد الرحمن الجميعان
ليس من السهولة أن يكتب المفكر أو المثقف أو الكاتب تصورا نقديا لجماعة أو تيار فكري أو حركي، في كل المستويات الفكرية، بدءا من الليبرالية وانتهاء بالإسلامية؛ فالكل يرفض النقد، والجميع يظن أنه هو الحق وهو الصواب، وغيره به لاحق.
بل إنك لتستنكر الاعتراض ممن ترى فيهم الوعي والفكر المستنير، والعقل الراجح، والأغرب أن هناك دويا من الكلام والحديث الخاص، في نقد الحركات والتيارات، وعند الكتابة يختفي كل هذا، ويتبدد تحت ظل النموذج المطروح!
أقول ذلك ولي تجارب متعددة في هذا الميدان، فما إن تنقد تيارا فكريا، أو شخصية، إلا وتتوالى عليك الصيحات والسهام من كل حدب وصوب تنال من الموضوع وصاحبه، دون النظر إلى صدق أو كذب الدعاوى!
لماذا النقد؟
سؤال مشروع، والإجابة ببساطة أن النقد درب وطريق للتصويب وتحقيق الطريق، وهو أسلوب نراه عيانا بالقرآن الكريم، وبالسيرة النبوية المعطرة، وبأفعال السلف ومن بعدهم، فهو ليس منطقا غريبا، ولا نابتة ظهرت، بل الذي نبت وابتليت به الأمة هو ضرب النقد وطرحه ومحاربته، بعد عهد الخلافة الراشدة وإلى اليوم.
فالنقد طريق من طرق التصويب والتقويم، والأمة لن تحيا إلا بالدين، والدين يحمله رجال إما علماء وإما دعاة، فلا بد من التقييم والتقويم.
أين أخفق الإسلاميون، ولماذا؟ وأين أبدعوا ونجحوا؟
سؤال مهم وينبغي الإجابة عليه وبإلحاح، ويتبعه سؤال آخر: لماذا لم يتم وعد الله تعالى للدعوة الإسلامية، في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
فالاستخلاف في الأرض مرهون إلى قضية الإيمان والعمل الصالح، والإيمان بشروطه المعلومة مثل الفهم الدقيق للمعتقد، والتوكل على الله وحده، والولاء والبراء، واليقين بنصر الله وتحقيق موعوده، والأخذ بالأسباب، وغير ذلك مما هو مبسوط في الكتب العقدية.
أما العمل الصالح، فيدخل تحته كل عمل يراد به وجه الله، بعد العبادات المشروعة، فالدعوة ووسائلها، والتخطيط والتدبير، والعمل والجهاد بكل أنواعه، والأخوة والتواصي، والتدبر في السنن، وغير ذلك تعد من الأعمال الصالحة، والنافعة للأمة، والتي بها رضى الله تعالى!
قضايا تحتاج إلى إعادة نظر من قبل التيارات الإسلامية:
١-الجماعات والتيارات الإسلامية عليها أن تدرك أنها تحمل الدين، أي تحمل رسالة الله الخاتمة للبشرية كافة، ومن هنا فلا بد من تنقية القلوب وتحسين الظاهر والباطن لعموم الدعاة، وألا يكون التلاعب بالدين من أجل الدين، أو استغلاله وتوظيفه للمآرب الشخصية، أو القضايا النفعية الواقعية على حساب الدين وهدر النصوص، أو إهمالها وتبرير الأعمال الفاسدة، كل ذلك مما يحبط عمل الدعوة ويهد كيانها لأنه كما قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ}.
٢-عدم ترجيح العمل السياسي على العمل الدعوي والفكري، والعمل الدعوي أولا فيه سعة والتصاق بالناس، وشعور بالتكليف السماوي، وتقريب منهم ومن همومهم، دون النظر إلى مصلحة الدعوة أو الجماعة، وإنما الغاية والهدف إرضاء الله تعالى بهداية الناس وانقاذهم مما هم فيه من ضلال أو سوء معتقد، أو انحراف سلوك، والعمل الدعوي هو الأصل والأساس في كل الدعوات، {ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
أما العمل السياسي، فليس كل أحد يصلح له، فلا ينبغي الدخول العام للدعوة في هذا المعترك الذي يختلط به الحق والباطل، بل تطغى عليه البراغماتية والمصالح الوقتية، وكم رأينا من دعاة أنقياء سقطوا في براثن العمل السياسي، وانحرفوا عن سواء السبيل!
ولو رأينا فنلاحظ الصحابة رضي الله عنهم قل فيهم من يجمع بين الفقه السياسي والفقه الشرعي وفهم الشريعة والدين، كمثل ابن الخطاب أوعلي أو عمرو بن العاص رضي الله عنهم، ذلك أن مجال السياسة مجال محفوف بالمخاطر، ومحاط بتغير السلوك بل والنوايا أحيانا، بل بعدم إظهار ما يبطن!
ثم الدعوة اليوم أشد ما تكون حاجة إلى تخريج دفعات من المفكرين العقديين، الذين تشربوا مشارب الدين، وتوسعوا في فقه الكتاب والسنة ومنهجية السلف الصالح، دون أنصاف المثقفين، أو الذين يمتطون ظهر الدعوة ليبرزوا!
وإلى علماء ذوي تأصيل متين، يفقهون النصوص الشرعية، وينزلونها على الواقع بتدبر وفهم.
٣-السياسة الشرعية:
ومع دخول الجماعات الإسلامية عالم السياسة، بغية التأثير والتمكين، رأينا الكثيرين يخفقون لعدم وجود الموازنات الشرعية وعدم فقه السياسة الشرعية، فخلطوا بين هدر النصوص وإهمالها أو تركها، بحجة المصالح والمفاسد، وتوسيع دائرة “مقاصد الدين”، حتى لم تراع مصالح أخوة، وانتهك حماهم كأنهم العدو الأول للأمة، وصار التباين والمفاصلات على هذه القضايا السياسية، والحرب المعلنة وغير المعلنة بين الأخوة العاملين في ذات الحقل الدعوي.
إن السياسة الشرعية قد تكون صمام أمان إذا ما درسها الدعاة، ومارسوها في دعوتهم وفقهوا نصوصها وقواعدها، وأدخلت في مناهجهم، ليكونوا على بصيرة ووعي كما وصفهم ربنا تعالى!
٤-تقديم الجانب العقدي على أي جانب آخر، فلا ينبغي التساهل في هذه القضية الخطيرة، لأنها مسألة كفر وإيمان، فلا يجوز التنازل عن المبادئ العقدية للدعوة بحجة السياسة أو المصالح الدنيوية، أو تمكين الدعوة، بل لابد من الثبات على المبادئ، “ولا تركنوا إلى الذين ظلموا”، “لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا “قليلا، فماذا ستكون النتيجة: {إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا}.. أي العذاب.!
ختاماً:
بعد كل ذلك على الدعوات أن تعي أن النصر بيد الله، وليس علينا قطف الثمرة، وإن كنا نحب أن نراه ونتمناه، بل علينا العمل، وقد نموت ولا تثمر الشجرة في وقتنا، إنما علينا الصبر والدعوة والثبات، وذلك منهج قرآني عظيم قال تعالى
{فَإِمَّا نَذۡهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنۡهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوۡ نُرِیَنَّكَ ٱلَّذِی وَعَدۡنَـٰهُمۡ فَإِنَّا عَلَیۡهِم مُّقۡتَدِرُونَ}، فإن كان هذا يقال للنبي صلى الله عليه وسلم، فهل تنتظر النصر وتريد أن تراه!
هذه قضايا مهمة وملحة في نظري، وهي من أوليات النظر في مسلك التيار الإسلامي، فهل نسمع لها جوابا؟!
والبحث مستمر……!