لم يكن للحرب «الإسرائيلية» الأخيرة على قطاع غزة، التي وصفها «ألوف بن»، محرر صحيفة «هاآرتس» العبرية، بأنها «الحرب الأفشل» في تاريخ «إسرائيل»، وانضمام فلسطينيي الداخل إلى النضال ضد الاحتلال، لأول مرة في تاريخ الصراع، وتمرد الفلسطينيين في الضفة الغربية على قمع سلطة محمود عباس وتنظيمهم مظاهرات غير مسبوقة ضد المستعمر.. لَتحدث لولا هبَّة القدس الشعبية التي فجَّرها المقدسيون في مطلع أبريل الماضي ضد المشاريع الصهيونية الهادفة إلى تهويد المدينة والمس بمكانة المسجد الأقصى كحرم إسلامي وتقليص قدرة الفلسطينيين في المدينة على البقاء.
سنعرض هنا للإجراءات الصهيونية التي قادت إلى تفجر هبَّة القدس الأخيرة، ومكانتها في إطار المخططات الصهيونية الأشمل لتهويد المدينة، وسنتتبع جذور العمل المقاوم الفلسطيني ذي الطابع الشعبي انطلاقاً من الانتفاضة الأولى في عام 1987 وحتى هبَّة القدس عام 2021م، مع التركيز على الانتفاضات وأنماط العمل المقاوم الشعبي المرتبط تحديداً بالقدس وقضيتها وطابع المخاطر التي عمدت هذه المقاومة إلى إحباطها، فضلاً عن رصد الإنجازات التي حققتها الهبَّة الحالية والإحاطة بالتحولات الإستراتيجية التي طرأت على بيئة الصراع في أعقابها.
أسهمت 4 إجراءات صهيونية في تفجير هبَّة القدس، رمت جميعها إلى محاولة إرساء حقائق على الأرض تساعد على تهويد المدينة وتقليص قدرة الفلسطينيين على البقاء فيها؛ حيث تمثلت هذه الإجراءات في صدور قرارات قضائية صهيونية بطرد 12 عائلة فلسطينية من منازلها في حي «الشيخ جراح»، الذي يعد أحد أحياء القدس الشرقية، بحجة أن الأراضي التي أقيمت عليها كانت مملوكة لليهود قبل حرب العام 1948م، وإغلاق شرطة الاحتلال مدرجات حي «رأس العامود»، التي تعد من المعالم الوطنية الفلسطينية المهمة في القدس، التي تمثل محطة يلتقي عندها الفلسطينيون المتجهون إلى المسجد الأقصى، والسماح للجماعات اليهودية المتطرفة بتنظيم مسيرات استفزازية في الأحياء الفلسطينية من المدينة، واقتحام المستوطنين وشرطة الاحتلال باحات المسجد الأقصى.
إن الذي أشعل الأضواء الحمراء لدى الفلسطينيين بشكل عام وفي القدس بشكل خاص حقيقة إدراكهم أن جملة الإجراءات الصهيونية جاءت في إطار مخطط التهويد الأوسع الذي وضعته الحكومة الصهيونية عام 2018م، بعيد إعلان الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترمب» الاعتراف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل»، وقراره نقل السفارة الأمريكية إلى المدينة، التي أطلق عليها مخطط «القدس الكبرى»؛ وهو المخطط الذي وضعته الحكومة «الإسرائيلية» بالتعاون مع بلدية الاحتلال في المدينة.
ويرمي مخطط «القدس الكبرى» إلى تحقيق 4 أهداف رئيسة:
أولاً: توسيع السيطرة اليهودية على الحيز الجغرافي في تخوم القدس لتكريس فصل المدينة عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية عبر بناء طوق من المستوطنات يلف المدينة من الشمال، والشرق، والجنوب.
ثانياً: الحفاظ على تفوق ديمغرافي لليهود؛ بحيث لا تقل نسبة تمثيلهم عن 72% من إجمال سكان المدينة مقابل 28% للفلسطينيين.
ثالثاً: تفتيت الوجود الفلسطيني في المدينة عبر إيجاد جيوب استيطانية يهودية في قلب الأحياء الفلسطيني داخل القدس الشرقية.
رابعاً: إسدال الستار على أي محاولة لتسوية الصراع الفلسطيني الصهيوني بالوسائل السياسية، على اعتبار أن هذا المخطط يشمل أيضاً بناء مشروع «E1” الاستيطاني الذي يربط القدس المحتلة بمستوطنة “معاليه أدوميم”، الذي سيؤدي إلى فصل شمال الضفة عن جنوبها؛ ما يعني استحالة تدشين دولة فلسطينية في الضفة ذات إقليم متصل.
وقد منحت اتفاقات أوسلو، التي أجَّلت بحث قضايا الحل الدائم، وضمنها قضية القدس، “إسرائيل” الفرصة لإرساء الحقائق على الأرض في أقل قدر من الممانعة الفلسطينية الرسمية.
وإلى جانب المشاريع التي تعكف عليها الحكومة وبلدية الاحتلال في القدس، فإن هناك العديد من الجمعيات اليهودية المتخصصة في مجال تهويد القدس، وتحديداً منظمة “عطيرات كوهنيم”، التي تتلقى دعماً سخياً من عدد كبير من رجال الأعمال اليهود في العالم.
ولا يمكن أيضاً تجاهل الدعم الذي تقدمه الجماعات المسيحية الإنجيلية لكل من المنظمات العاملة في مجال التهويد ومنظمات الهيكل التي تخطط لتدمير المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه.
فحسب تحقيق بثته قناة التلفزة العبرية “12”، فإن الجماعات الإنجيلية تقدم دعماً بملايين الدولارات إلى المنظمات اليهودية المتطرفة العاملة في مجال الاستيطان والتهويد، وضمنها المنظمات العاملة في القدس.
صعود الحركة “الكهانية”
على الرغم من أن الكيان الصهيوني ما ينفك عن تنفيذ مشاريعه الاستيطانية وتبني السياسات الهادفة إلى طرد المقدسيين من مدينتهم، فإن توقيت تصعيد الإجراءات «الإسرائيلية» في القدس عشية هبَّة القدس، ارتبط بشكل أساس بتعاظم تأثير التيار الديني اليهودي المتطرف على دائرة صنع القرار في الكيان الصهيوني، كما عكست ذلك نتائج الانتخابات «الإسرائيلية» الأخيرة، وهو التيار الذي يبدي حماساً، استناداً إلى منطلقات عقائدية، لإنجاز تهويد المدينة.
فقد أسفرت هذه الانتخابات عن حصول تحالف حزب الصهيونية الدينية والحركة «الكهانية» الإرهابية على تمثيل مهم في «الكنيست»؛ حيث إن هذا التحالف يدعم صراحة حركات الهيكل اليهودية التي تطالب بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.
وعلى الرغم من أن هذا التحالف خاض الانتخابات الأخيرة في قائمة مستقلة، فإنه حظي بدعم حزب الليكود الذي يقوده رئيس الحكومة «بنيامين نتنياهو»، الذي جاهر بأن هذه التحالف سيكون ضمن أي ائتلاف سيشكله في المستقبل.
ومما يدل على دور هذا التحول السياسي في تأجيج الأوضاع بالمدينة أن «إيتمار بن غفير»، زعيم الحركة «الكهانية»، أسهم بشكل خاص في استفزاز مشاعر الفلسطينيين عندما أصر على تدشين مكتب ميداني له في قلب «الشيخ الجراح» وظفه في تحريض المستوطنين على استهداف الفلسطينيين، مستغلاً حصانته البرلمانية كنائب.
ورغم أن هناك عدداً كبيراً من المنظمات والحركات اليهودية التي تسهم في محاولات تهويد القدس -وضمن ذلك استفزاز الفلسطينيين والاعتداء عليهم- فإن ما يفاقم خطورة دخول الحركة «الكهانية» على الخط أنها تحظى بتمثيل في النظام السياسي الصهيوني، وخاضت الانتخابات من منطلق العمل على تغيير الواقع في القدس والمسجد الأقصى لصالح اليهود.
ومما يبرز خطورة الدور الذي مارسته الحركة «الكهانية» في تأجيج الأوضاع في القدس، أنها أسسها أتباع الحاخام «مئير كهانا»، الذي كان أول من دعا إلى طرد الفلسطينيين في شاحنات إلى الدول العربية، ورأى في تدمير الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاضه بمثابة الخطوة الأهم التي ستقود إلى «حرب يأجوج ومأجوج»، وما يعقبها من نزول «المخلص المنتظر»، الذي يمثل نزوله تحقق «الخلاص اليهودي».
ويرى أتباع «كهانا» (من قادة الحركة «الكهانية» وعلى وجه الخصوص «بن غفير») أنه يتوجب استغلال كل فرصة لإشعال الأوضاع في أي مكان بفلسطين، وعلى وجه الخصوص في القدس، على أمل أن يقود ذلك إلى المواجهة الحاسمة التي تفتح الطريق أمام تدمير الأقصى.
من هنا لم يكن مفاجئاً أن تتولى منظمة «لاهافا» الإرهابية، إحدى المنظمات المتفرعة عن الحركة «الكهانية»، التي يقودها الحاخام «بنتسي غوفشتين»، القيام بمعظم الأنشطة الاستفزازية التي أججت الأوضاع في «الشيخ جراح» و»رأس العامود»، والبلدة القديمة والأقصى.
جذور المقاومة الشعبية
مثلت هبَّة القدس الأخيرة حلقة من حلقات المقاومة الشعبية الفلسطينية، التي مثلت الانتفاضة الأولى باكورتها الأولى، وشملت عدداً من الهبَّات والانتفاضات ومظاهر المقاومة الواسعة التي ارتبطت بالنضال الفلسطيني الرامي إلى إجبار المحتل الصهيوني على دفع ثمن غال لاحتلاله بشكل عام، ولإفشال المخططات الصهيونية الهادفة إلى تهويد الواقع الديمغرافي والفضاء الجغرافي في القدس ومحيطها.
وقد شملت مظاهر المقاومة الشعبية الفلسطينية عدة محطات تاريخية، أبرزها:
1- الانتفاضة الأولى عام 1987-1994م:
تفجرت الانتفاضة الأولى نهاية العام 1987م، ووضعت حداً لما اصطلح على تسميته «مرحلة الطوق المفقود»، التي امتدت من العام 1982 وحتى العام 1987م، وهي المرحلة التي توقف خلالها تقريباً العمل المقاوم الفلسطيني في شقيه المسلح والجماهيري، وتعد الانتفاضة الأولى أهم التحولات التي طرأت على العمل المقاوم الفلسطيني؛ حيث إنها تشبه في أهميتها ثورة عام 1936م ضد الانتداب البريطاني وانطلاق المقاومة الفلسطينية المسلحة بعد حرب عام 1967م.
وقد انطلقت في مطلع هذه الانتفاضة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي عرفت نفسها بأنها «الجناح العسكري» لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين، وقد استشهد في هذه الانتفاضة 1300 فلسطيني، في حين قُتل 160 مستوطناً، ويرجع التباين في عدد الشهداء الفلسطينيين وعدد القتلى الصهاينة إلى حقيقة أن المقاومة الفلسطينية لم تستخدم العمل المسلح إلا في نهاية هذه الانتفاضة، التي توقفت عند تشكيل السلطة الفلسطينية في عام 1994م.
2- انتفاضة الأقصى عام 2000-2005م:
تعد انتفاضة الأقصى واحدة من أهم حلقات المقاومة الفلسطينية؛ حيث تفجرت رداً على تدنيس زعيم المعارضة الصهيونية «أرئيل شارون» المسجد الأقصى، وأسفرت عن استشهاد 4412 فلسطينياً و48322 جريحاً، في حين قُتل 1070 جندياً ومستوطناً صهيونياً، وجرح 4500 آخرون.
وقد امتازت انتفاضة الأقصى مقارنة بالانتفاضة الأولى بالتركيز على تنفيذ العمليات المسلحة وضمنها العمليات الاستشهادية، وقد تكبد الكيان الصهيوني في هذه الانتفاضة خسائر اقتصادية هائلة، إلى جانب أنها مست بمستوى الشعور بالأمن الشخصي لدى الصهاينة بشكل غير مسبوق.
3- انتفاضة القدس عام 2015-2016م:
أطلق عليها أيضاً «ثورة السكاكين»؛ لأنها اقتصرت بشكل أساس على تنفيذ عمليات طعن بالسكاكين، وجاءت رداً على إقدام منظمة «شارة ثمن» الإرهابية اليهودية على إحراق عائلة دوابشة الفلسطينية في بلدة «دوما»، جنوب نابلس، أواخر أغسطس 2015م، وقد كان لافتاً أن جميع منفذي عمليات الطعن كانوا من الفلسطينيين الذين يقطنون القدس وضواحيها، فضلاً عن أن الكثير من هؤلاء كانوا فتية وأطفالاً.
4- هبَّة الأقصى عام 2017م:
جاءت هبَّة الأقصى عام 2017م رداً على قرار «إسرائيل» وضع «بوابات إلكترونية» على مداخل المسجد الأقصى، وهو ما رأى فيه الفلسطينيون محاولة صهيونية لتكريس وضع جديد في القدس يمهد لتحقيق الحلم الصهيوني بفرض التقاسم الزماني والمكاني في الحرم، وصولاً إلى تدشين الهيكل محل مسجد القبة المشرفة.
وقد كانت هبَّة الأقصى عام 2017م، التي تواصلت لمدة 3 أسابيع وأحرزت انتصاراً هائلاً للشعب الفلسطيني، بعد ما أرغمت حكومة اليمين الصهيوني في حينه على التراجع عن القرار وإزالة البوابات الإلكترونية في مشهد تاريخي؛ وهو ما عزز ثقة الفلسطينيين بعوائد الرهان على المقاومة كمسار يفضي إلى لجم الاحتلال ويحاصر تطلعاته.
5- مسيرات العودة الكبرى عام 2018-2019م:
انطلقت هذه المسيرات في قطاع غزة فقط، وهدفت إلى إنهاء حالة الحصار المفروض على قطاع غزة، وقد شملت تنظيم مظاهرات على طول الخط الفاصل بين قطاع غزة والكيان الصهيوني، إلى جانب قيام الشباب الفلسطيني بالتسلل إلى العمق الصهيوني واقتحام المواقع العسكرية.
وقد تضمن هذا النمط من المقاومة الشعبية إطلاق البالونات الحارقة، التي مثلت تحدياً أمنياً هائلاً للاحتلال؛ حيث تسببت في مئات الحرائق في العمق الصهيوني، التي أضرت بالبنية الزراعية والصناعية والأحياء السكنية في المستوطنات.
وقد أسفرت مسيرات العودة عن استشهاد 372 فلسطينياً وجرح مئات آخرين، كما أصيب الكثيرون منهم بعاهات دائمة نتيجة تعمد جيش الاحتلال إصابة الأجزاء العلوية من الجسم والأطراف.
إنجازات هبَّة القدس الإستراتيجية
أسفرت هبَّة القدس الأخيرة وما تبعها من شن الحرب الصهيونية على قطاع غزة والتحاق فلسطينيي الداخل بإخوانهم في مواجهة الاحتلال عن عدد من الإنجازات الإستراتيجية التي ستؤثر بشكل كبير على بيئة الصراع مع الصهاينة.
ويمكن رصد هذه الإنجازات في التالي:
أولاً: أعادت الاعتبار للقضية الوطنية الفلسطينية وفرضتها مجدداً على بؤرة الاهتمام الإقليمي والدولي؛ فقد دللت هذه الهبَّة على أن التحولات التي طرأت على علاقات بعض الدول العربية بالكيان الصهيوني من خلال مسار التطبيع لا يمكن أن تغطي على هذه القضية، وهذا ما فطنت الكثير من النخب الصهيونية التي وبَّخت رئيس الحكومة «بنيامين نتنياهو» الذي سارع بُعيد التوقيع على اتفاقات التطبيع على تبشير الصهاينة بأن القضية الفلسطينية لم تعد تؤثر على هذا الكيان، وأن اتفاقات التطبيع فتحت مسارات لتحسين مكانة «إسرائيل» ليس فقط لدى نظم الحكم في المنطقة، بل أيضاً لدى الشعوب العربية، وقد جاء التفاف الأمة وشعوبها حول القدس والمقاومة الفلسطينية في أعقاب حرب غزة الأخيرة ليدل على أن «نتنياهو» حاول أن يسوّق أوهاماً على مستوطنيه.
ثانياً: دلَّت هبَّة القدس مرة أخرى على دور المسجد الأقصى الرئيس كموحد للشعب الفلسطيني والأمة بأكملها؛ فانتصاراً للقدس هبَّت الضفة الغربية وانطلقت صواريخ غزة، والتحم فلسطينيو الداخل في معركة بطولية ضد المحتل، مع العلم أن انضمام فلسطيني الداخل إلى دائرة الصراع على هذا النحو يعد أحد أهم التحولات التي طرأت على مسار الصراع مع الاحتلال، على اعتبار أن هؤلاء الفلسطينيين يعيشون في حالة احتكاك مباشر مع الصهاينة؛ ما يجعل انخراطهم في المواجهات وصفة لإشاعة الفوضى في هذا الكيان لدرجة فقدانه السيطرة على ضبط الأمور، كما حدث في بعض مواطن المواجهة التي شملت الجليل، والمثلث، وصحراء النقب المحتل.
من ناحية ثانية، فقد تجلى تفاعل الأمة مع هذه الهبَّة في تظاهر الأردنيين واللبنانيين على الحدود، ومحاولتهم اقتحامها وانطلاق المظاهرات في جميع أرجاء العالمين العربي والإسلامي، وصياغة مبادرات التضامن على أوسع نطاق مع الشعب الفلسطيني.
ثالثاً: أثرت هبَّة القدس وحرب غزة على الوعي الجمعي للفلسطينيين والعرب والمسلمين؛ بحيث باتت قطاعات واسعة في الأمة تؤمن أن طرح تحرير فلسطين لم يعد مجرد شعار، بل بات ممكناً، وأن الهالة التي أحاط الكيان الصهيوني ذاته بها التي أسهمت نظم حكم عربية بمساعدته على تكريسها هالة مزيفة؛ فقد تبين أنه بالإمكان تجاوز القدرات العسكرية والتكنولوجية للكيان الصهيوني بقدرات محدودة؛ حيث إن مقاومة غزة تعد -حسب التقدير الصهيوني- «أضعف حلقات العداء» لهذا الكيان، ومع ذلك تمكنت من تحقيق هذه الإنجازات غير المسبوقة.
رابعاً: دلت هبَّة القدس وما تبعها على أن المقاومة الفلسطينية، وبخلاف حملات الشيطنة التي تستهدفها من قبل بعض نظم الحكم والنخب المرتبطة بها، تمثل سنداً مهماً جداً للأمن القومي العربي؛ فقد عطلت صواريخ المقاومة الفلسطينية أنبوب «إيلات عسقلان» الصهيوني، الذي يربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، الذي راهنت «إسرائيل» وبشكل صريح على تقديمه لكي يكون بديلاً عن قناة السويس، سيما بعد حادثة جنوح السفينة في القناة؛ فبعد أن تعطل هذا الأنبوب، فإن قدرة «إسرائيل» على تسويقه كبديل لقناة السويس تلاشت، كما أصابت صواريخ المقاومة في مقتل مخططاً تعكف عليه «إسرائيل» حالياً بوصفه بديلاً آخر لقناة السويس، ويتمثل في تدشين خطة سكة حديد لربط إيلات بميناء أسدود، لكي يتم توظيفه في نقل البضائع الصلبة التي تصل عبر البحر الأحمر إلى إيلات ومنها إلى أسدود ومن هناك إلى أوروبا، وقد بات في حكم المؤكد أن جدوى هذا المشروع تراجعت بعد أن أظهرت الحرب أن صواريخ المقاومة ستوقف حركته.
خامساً: عرَّت هبَّة القدس والحرب على غزة الأطراف الفلسطينية والعربية التي تتشبث بخيار التسويات والتطبيع مع الاحتلال؛ فعلى الصعيد الفلسطيني مست هذه الهبَّة بمكانة السلطة الفلسطينية وقيادتها؛ التي باتت غير ذات صلة بما يجري، سيما في ظل مواصلتها التعاون الأمني مع الاحتلال، وهو ما يفسر الدعوات لإسقاط هذه السلطة وتشكيل قيادة موحدة للشعب الفلسطيني، في الوقت ذاته؛ فقد أحرجت الاعتداءات الصهيونية التي قادت إلى اندلاع هبَّة القدس وحرب غزة نظم الحكم العربية التي طبعت مع «إسرائيل»؛ حيث إن ما أقدم عليه الصهاينة تعارض بشكل جذري مع السردية التي تبنتها هذه الأنظمة من أن التطبيع يخدم الفلسطينيين.
سادساً: أحدثت نتائج هبَّة القدس والحرب على غزة تحولاً ما على مواقف الدول الأوروبية من حركات المقاومة؛ فبسبب حضور حركة المقاومة الإسلامية (حماس) خلال الحرب، سارعت المستشارة الألمانية «أنجيلا ميركل» للدعوة إلى إجراء اتصالات غير مباشرة مع الحركة، في حين وصل الأمر ببعض مسؤولي الاتحاد الأوروبي إلى الدعوة إلى إجراء اتصالات مباشرة مع الحركة، التي لا تزال على قائمة الإرهاب الأوروبية، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن العالم بات يعي طابع توازن القوى في الساحة الفلسطينية، وأنه لا يمكن تجاهل القوى ذات التأثير الحقيقي في هذه الساحة.