انتهت انتفاضة الأقصى في صورتين مختلفتين ما بين الضفّة الغربية، التي أعاد الاحتلال اجتياح المناطق «أ» فيها عام 2002م، وقطاع غزّة الذي استكمل الاحتلال انسحابه منه عام 2005م.
مع الانقسام الفلسطيني أدارت قطاع غزّة حكومة مقاومة، بينما أدارت الضفّة الغربية سلطة غير متعاطفة مع فكرة مواجهة الاحتلال، وبهذا يمكن إدراك أن قوّة المقاومة داخل قطاع غزّة، هي مراكمة في القوّة والقدرات والخبرات، مؤسّسة على لحظة انتفاضة الأقصى، التي أعادت فيها حركات المقاومة بناء نفسها، بعد سنوات من القمع والتفكيك تعرّضت لها إثر دخول السلطة الفلسطينية قطاع غزّة، ومراكز المدن في الضفّة الغربية.
المهم في ذلك هو امتلاك الإرادة على تطوير المكسب الناجم عن انتفاضة الأقصى إلى قاعدة مقاومة، تتجاوز العقبات الخاصّة بجغرافيا هذه القاعدة المكشوفة والضيقة، بطبيعتها، ولقدرات الاحتلال الاستخباراتية، فضلاً عن الحصار المطبق.
ظرف خاص
وقد كشفت هذه الإرادة عن نفسها بالقفزات الهائلة، على مستوى الإعداد والتسليح وتطوير قدرات التصنيع الذاتي، والتقدّم المستمرّ في الخطط الإستراتيجية والتكتيكية، وهو ما انعكس في الأداء القتالي كذلك؛ فظرف المقاومة خاصّ في المستويين؛ الاستعداد الذي يتطلب خيالاً خصباً ومثابرة استثنائية، وفي طرائق القتال التي تتطلب تحييد تفوُّق النيران الهائل للعدوّ، وانكشاف ساحة القتال لأدواته الاستخباراتية، بما في ذلك طيرانه.
وفي المستويين يمكن تصوّر فكرة الأنفاق بأغراضها المتعددة (الاختفاء، التنقل، الاتصال، غرف عمليات، التخزين، قواعد إطلاق، مصانع، أنفاق هجومية..)، وتطوير أدوات المقاتل، ورفع جهوزيته الدائمة.
لتحقيق هذه الأغراض كان مطلوباً من المقاومة الاستثمار الأمثل للطبيعة الطبوغرافية الخاصّة بساحتها، ولمقدراتها الماديّة المحدودة، وللعقول العلمية والتقنية، سواء داخل غزّة نفسها، أم في ساحات الأمّة المتعددة.
ومع هذا الفكر الخلاق الذي يستند إلى إيمان بالمشروع، وجدّية وصدقية جعلتا المقاومة فوق النزعات الاستعراضية والتوظيف السياسي الضيق، يمكن القول: إنّه أمكن الوصول إلى معادلة ردع معقول، في سياق تقدّم إستراتيجيّ للمقاومة، وتراجع إستراتيجي للعدوّ.
فشل إستراتيجي
التراجع الإستراتيجي للاحتلال يمكن تلخيصه في عجزه عن إنهاء حالة المقاومة في قطاع غزّة، وفشل سياساته التي انتهجها لهذا الغرض، من الحصار المطبق، ومحاولة تحويل سلاح المقاومة إلى عبء معيشي على السكان، ومحاولة إبطال وظيفته الإشغالية الاستنزافية للاحتلال بتحويله إلى سلاح دفاعي مرتبط بالظروف المعيشية لأهل غزّة، أو محاولة فرض معادلة ردع، تمنع المقاومة من تفعيل سلاحها مطلقاً، كلّ هذه السياسات فشلت.
في مقابل هذا الفشل الإستراتيجي للاحتلال، تمكنت المقاومة، ليس من الحفاظ على نفسها وتطويرها ادخاراً للحظة اشتباك محتملة فحسب، بل تمكنت من إظهار هذا التطوير فعلاً قتالياً بين فترة وأخرى، وهو أمر غاية في الخطورة بالنسبة للاحتلال لجملة من الأسباب، من أهمها إيجاد حالة رفض دائمة ممثلة في المقاومة، في مقابل حالة الهدوء التي تفرضها سياسات السلطة الفلسطينية التي تسمح للاحتلال بالتمدّد استيطانياً في الداخل، وسياسياً واقتصادياً وثقافياً في الخارج، كما أنّ حالة المقاومة تبقى رافعة معنوية للجماهير الفلسطينية والعربية، في مقابل التردّي المعنوي الذي توجده سياسات التسوية والتطبيع، والأخطر من ذلك بالنسبة للاحتلال قدرة المقاومة على فرض معادلات عسكريّة، تنهي أيّ إمكانية للاحتلال لإزالتها بالقوّة، وهي مسألة وجودية بالنسبة للاحتلال.
إنّ الإستراتيجية التي تقوم على كسح الأعداء بالقوّة القاهرة في وقت قياسي، أو على ردعهم فيما تسميه دولة الاحتلال «كيّ الوعي» وهو ما استخدمته في انتفاضة الأقصى ضد الفلسطينيين، أو «عقيدة الضاحية» التي استخدمتها في حربها على لبنان في العام 2006م، التي تعني صبّ قوّة القتل والدمار على الحاضنة الشعبية للمقاومة، باتت عاجزة تماماً أمام المقاومة في غزّة، فمنذ عام 2000م والمقاومة في غزّة تنتهج أسلوب المشاغلة، الذي يتخلّل فترات الإعداد الهادئ والدؤوب، ما يجعل العمل العسكري «الإسرائيلي» ضدّ المقاومة محفوفاً بالغموض والمخاطر العالية وافتقاد الرؤية، بينما يعمل الهدوء في النتيجة لصالح المقاومة التي تستمرّ في مراكمة القوّة.
فعلياً يمكن القول: إنّ المقاومة أفقدت العدوّ واحدة من أهم مرتكزاته العسكرية في ترسيخ مكانته والحفاظ على دعائم وجوده واستمراره.
كيُّ الوعي
عجْزُ الاحتلال عن إنهاء حالة المقاومة في غزّة بالقوّة المسلحة، انتقل بالمشهد لتملك المقاومة نفسها القدرة على «كيّ وعي» الاحتلال، وذلك في مستويين:
الأوّل: كيّ آلته العسكرية، التي وجدت نفسها مرتبكة ومشوّشة أمام المقاومة، فالحرب مكلفة جداً لها، ومآلاتها غامضة، بينما الجولات السريعة تفتقد لأيّ إنجاز يمكن تسويقه سياسياً على الجمهور الصهيوني.
والمستوى الثاني: إفقاد المجتمع الصهيوني اليقين الوجودي، وقد بدأ ذلك من محيط قطاع غزّة، ليتطور مع العدوان الأخير إلى كلّ مناطق فلسطين المحتلة، وهذه الخلخلة لليقين الوجودي للمجتمع الصهيوني ترتبط بتهشيم صورة الجيش الصهيوني في وعي جمهوره، وهزّ الثقّة به.
يمكن بذلك الانتقال إلى صورة مركبة، طبقتُها الأولى من المجتمع الصهيوني، الذي بدا له أن حركة محاصرة في شريط ساحليّ ضيق ومكشوف بالكامل قادرة على فرض حظر طيران جوي عليه، وإنزال أكثره إلى الملاجئ، في عملية كشف فعليّ عن افتقاد الكيان الصهيوني للعمق الإستراتيجي، لصغر مساحة فلسطين المحتلّة؛ فكيف لو خاضت عدة جبهات عربيّة حرب تحرير جدّيّة تستثمر فيها افتقاد الكيان للعمق الإستراتيجي؟
في الطبقة الثانية من الصورة، يأتي وعي الفلسطيني والعربي الذي شاهد بنفسه ما شاهده المجتمع الصهيوني، من قدرة حركة محاصرة بالظروف المذكورة على فرض معادلة ردع على الاحتلال، تتضمن في جوهرها صورة مصغّرة عن إمكانية التحرير في وقت قياسيّ لو كانت المعركة عربيّة أو إسلاميّة جادّة، بأدوات تفوق قدرات المقاومة؛ ما يعني عودة التفكير في التحرير، والحديث عنه كما كان في ستينيات القرن الماضي، بعدما طمسته دعايات العجز العربي، وسياسات التسوية التي انتهجتها منظمة التحرير الفلسطينية.
وبهذا، سوف نلاحظ بما تبين من معركة «سيف القدس» الأخيرة، مروراً بتاريخ المقاومة القريب، أنّ المقاومة وضعت أهدافاً مرحليّة في طريق مشروع إستراتيجيّ، بدأ باستثمار لحظة انتفاضة الأقصى، ثم المراكمة عليها، لتثبيت النفس أولاً، ثم لتكريس تجاوز العقبات الموضعية، ثم لتجاوز تفوق الاحتلال الهائل بأبعاده المتنوعة، ثم بإثبات الذات، وكسر المعادلات المفروضة من الاحتلال موضعياً وظرفياً، ثم بتجاوز الظرف الخاص نحو الأفق الوطني، وعلى النحو الذي ينهي أيّ إمكانية لسحق المقاومة، وصولاً إلى المبادرة في فرض المعادلات، وعلى نحو يتضمن كيّاً للوعيّ الصهيوني، ورفعاً للوعيّ الفلسطيني والعربي، وبما يعيد إمكانية التحرير للتداول.
هذا التقدّم للمقاومة يعني بالضرورة تراجعاً للاحتلال كان يختفي خلف انتفاشة القوّة، ورداءة الظرف العربي، والدعم الدولي.