تصاعد التعبير عن الدعم الشعبي لفلسطين حول العالم، بالتزامن مع ما شهدته الأراضي المحتلة من جرائم بحق الإنسانية، ونظمت فعاليات ومظاهرات حاشدة في عشرات الدول، وانتشرت صور تدمير المساجد والأبراج والبيوت وقتل المدنيين والأطفال، على وسائل الاتصال الاجتماعي.
فهل خسرت «إسرائيل» المعركة الإعلامية الجماهيرية قبل أن تخسر المعركة الحربية؟
قال الرأي العام كلمته في بريطانيا وأيرلندا وألمانيا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا وبلجيكا والبوسنة ورومانيا، وأستراليا واليابان ونيوزيلندا، فضلاً عن أمريكا وكندا، وعواصم أخرى، واستنكر المشاركون في تلك الفعاليات العدوان الصهيوني المتغطرس على غزة، بالإضافة إلى العنف المستخدم في القدس المحتلة ضد المقدسيين والمصلين، وشهدت مدن بريطانية مظاهرات حاشدة لدعم فلسطين (في لندن، ومانشستر، وبرمنجهام، وبرادفورد، وأكسفورد، ونوتنجهام، وشيفلد، ونيوكاسل).
وشهدت أمريكا مسيرات مؤيّدة للفلسطينيين، شارك فيها الآلاف، في نيويورك، وبوسطن وواشنطن وهيوستين وشيكاغو، ولم يجرؤ يهود نيويورك البالغ عددهم مليوناً ونصف مليون أن يقوموا بأي تظاهرة مضادة.
وفي كندا، جابت مظاهرة حاشدة هي الأولى من نوعها شوارع مونتريال منددة بالعدوان الصهيوني، وفي ألمانيا، وفرنسا، والدنمارك، والنمسا، قمعت قوات الأمن تظاهرات داعمة للفلسطينيين.
رأي الجمهور البريطاني:
وفقاً لاستطلاع سابق أجراه برنامج المواقف السياسية الدولية لخدمة «BBC” العالمية، ينظر الجمهور البريطاني إلى “إسرائيل” بشكل سلبي للغاية، فلدى 72% آراء سلبية تجاه “إسرائيل”، بينما يحمل 19% فقط نظرة إيجابية، ومن أصل 23 دولة شملهم الاستطلاع، فإن 18 دولة تميل سلباً نحو “إسرائيل”، والنظرة السلبية عالية بين الدول الأوروبية؛ ألمانيا (67%)، وفرنسا (64%)، وإسبانيا (61%)، ومن المتوقع أن تكون نفس النسب موجودة الآن بالنظر إلى استمرار صلف واعتداءات “إسرائيل”(1).
وفي بريطانيا توجد حركات دينية وشعبية ونقابية وطلابية وإغاثية وقانونية وبرلمانية تتضامن مع قضية فلسطين، رغم التربص بالتهمة الجاهزة بمعاداة السامية، وقام نجوم لكرة القدم أيام العدوان الأخير برفع علم فلسطين في الملاعب.
رأي الأمريكيين:
وطبقاً لاستبيان لمؤسسة «جالوب»، في مارس هذا العام، فـ»إسرائيل» لا تزال محبوبة في أمريكا، ولكن في الوقت نفسه، وصلت وجهات النظر المؤيدة للسلطة الفلسطينية إلى ارتفاع جديد 30%، وكذلك النسبة المتعاطفة مع الفلسطينيين أكثر من «الإسرائيليين» ارتفعت من 19% عام 2018م إلى 25%، ولا يزال الأمريكيون يميلون إلى الضغط على الفلسطينيين أكثر من «الإسرائيليين» لحل صراع الشرق الأوسط، لكن تأييد الضغط على «إسرائيل» وصل أيضاً إلى مستوى مرتفع بنسبة 34%، مع اتخاذ غالبية الديمقراطيين هذا الموقف لأول مرة(2)، كان ذلك بمثابة إرهاصات تنبئ بتغييرات جذرية غير مسبوقة لصالح فلسطين في الشعور العام.
“حياة الفلسطينيين مهمة” (PLM):
المجتمع الأمريكي المشحون عنصرياً بشكل متزايد يغير سريعاً الطريقة التي يرى بها فلسطين، فلم يتم توجيه اتهامات عنصرية للولايات المتحدة منذ الستينيات كما هي اليوم، وأدى صعود حركة «حياة السود مهمة» (BLM) إلى إجبار الأمريكيين على مواجهة قرون من انتهاكات الدولة المنهجية لمواطنيها الأفارقة.
وسلطت الحركة الضوء على الأسباب الشائعة للقمع المنهجي ضد السود، واللاتينيين، والأمريكيين الأصليين، والمسلمين، وكذلك الفلسطينيين الذين تُظهرهم وسائل الإعلام، والسياسة، والكتب المدرسية أنه شعب شيطاني، نتيجة لذلك لم يعد الأمريكيون الأصغر سناً يؤمنون بأسطورة أن مجتمعهم يعاني من عمى الألوان.
أما رشيدة طليب، أول أمريكية فلسطينية انتخبت للكونجرس، فشجبت تجاهل الحكومة الأمريكية الصارخ لحياة الفلسطينيين، وسألت زملاءها في الكونجرس: “كم عدد الفلسطينيين الذين يجب أن يموتوا حتى تكون حياتهم مهمة؟”، وأعلنت أن “حرية الفلسطينيين مرتبطة بمكافحة الاضطهاد في جميع أنحاء العالم”، وعبّرت عن المشاعر التي يحملها عدد متزايد من الشباب الأمريكيين التقدميين من جميع الأعراق والأديان عندما قالت: “يجب علينا دون تردد أن نطالب بلادنا بالاعتراف بأن الدعم غير المشروط لـ”إسرائيل” قد مكّن من محو الحياة الفلسطينية”.
ويشارك 21 عضواً بالكونجرس في رعاية مشروع قانون “الدفاع عن حقوق الإنسان للأطفال والعائلات الفلسطينية التي تعيش تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي”، وهدف المشروع: “لا يمكن استخدام دولار واحد من المساعدات العسكرية الأمريكية لهدم منازل الفلسطينيين، وضم الأراضي، وتعذيب أو قتل الأطفال الفلسطينيين”.
لم يسمع مثل هذا الخطاب من المسؤولين المنتخبين من قبل، غالباً ما كان الدفاع عن حقوق الفلسطينيين مساوياً لمعاداة السامية، وتقوم حركة مناهضة العنصرية في القرن الحادي والعشرين بتعليم الأمريكيين كيفية تلاعب الأقوياء بالإعلام والسياسة والاقتصاد لقمع مجموعات كاملة من الناس، ومع تطبيق ذلك على فلسطين، فإن السؤال المطروح هو: متى، وليس ما إذا كانت السياسة الخارجية الأمريكية ستعود أخيراً إلى تثمين الحياة الفلسطينية؟(3).
الحرب الرقمية
ومع تصاعد قذف غزة، انتشرت على شاشات الهواتف في العالم مشاهد الدمار، وقتل الأبرياء، والأطفال، ودعوات التدخل، وقد يؤدي هذا النشاط إلى إظهار «إسرائيل» على حقيقتها، ويزيل الالتباس بشأن الصراع الطويل المعقد، يقول الأمريكيون من أصول فلسطينية: إن النشاط على مواقع التواصل الاجتماعي هو لحظة فاصلة، تشبه الحراك العالمي خلال الصيف الماضي ضد الظلم العرقي، وبخلاف التوجه التقدمي المتنامي، ترى إحداهن أن الفلسطينيين على الأرض لديهم هواتف متصلة بمواقع التواصل، ويمكنهم «التحكم في سرد الحقائق» ليعرضوا قضيتهم للعالم بدقة.
ولا تقتصر أهمية المحادثات الإلكترونية على خلقها الوعي بالصراع؛ فترى ناشطة أخرى أن هذا الحراك كشف زيف سرديات عمرها عقود عن الفلسطينيين، سائدة في الإعلام التقليدي وتروج لها بعض الحكومات، وأن الوصف الأدق هو الاحتلال، والاستيطان، والفصل العنصري، والمذابح، وكلها مفردات تظهر بشكل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي؛ «لا يوجد وصف آخر لحبس مليوني شخص في سجن مفتوح، وقصفهم كل بضعة أعوام لأسابيع، حين يعيش كل هؤلاء في مدينة صغيرة بكثافة سكانية عالية، ولا توجد وسيلة للهرب من هذا القصف الشامل، فهذا بالتأكيد إبادة جماعية»(4).
عندما يتعلق الأمر بالصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني، فإن روح العصر السياسي تتغير، على جانبي الأطلسي؛ فقد حوّل الحديث -في كل من أمريكا وأوروبا- بما يتماشى مع المناقشات الوطنية حول العدالة العرقية والاقتصادية، والهجرة والإرهاب.
وكشفت الجولة الجديدة انعكاساً مذهلاً في الخطاب الدولي، حيث تحركت المشاعر العامة في أمريكا بشكل خاص تجاه الفلسطينيين، بينما أعربت بعض الحكومات الأوروبية عن دعمها لـ”إسرائيل”؛ ففي أوروبا، حيث يوجد تقليدياً تعاطف أكبر مع القضية الفلسطينية، انتهج القادة من اليمين المتطرف الاتجاه المعاكس، بازدواجية للمعايير، مثل المستشار النمساوي، ورئيس الوزراء المجري، ورئيس وزراء سلوفينيا، ورئيس التشيك، وأمين الحزب الديمقراطي المسيحي الألماني.
تغيير جذري
«تغيير جذري.. جيل أمريكا الجديد من الأصوات المؤيدة للفلسطينيين»، هذا هو عنوان لصحيفة «الجارديان» يبين كيف حقق العدوان يقظة في المجتمع(5)، ففي أمريكا، يواجه الدعم غير المشروط لـ”إسرائيل” تحدياً من قبل جيل جديد من النشطاء، بمن في ذلك الفنانون ونجوم هوليوود والأكاديميون والنواب الديمقراطيون، مثل نائبة نيويورك “ألكساندريا كورتيز”، التي وصفت “إسرائيل” بأنها “دولة الفصل العنصري”.
وقادت عارضتا الأزياء “بيلا”، و”جيجي حديد” (والدهما فلسطيني) نشر مجموعة من الصور والقصص على “إنستجرام” تدين انتهاكات حقوق الفلسطينيين، وقد قوبلت منشورات “بيلا” باتهام من “إسرائيل” بالدعوة إلى “إلقاء اليهود في البحر”، وعبرت “جيجي” عن مزاج جيل جديد من الناخبين: “لا يمكن للمرء أن يدافع عن المساواة العرقية، وحقوق المثليين، وإدانة الأنظمة الفاسدة والتعسفية ومظالم أخرى، ثم تختار تجاهل القمع الفلسطيني، لا يمكنك انتقاء واختيار الأشخاص الأكثر أهمية لحقوق الإنسان”(6).
ويبشر هذا الحراك الشعبي بحركة أكبر وأكثر عمقاً في السياسة الأمريكية، تعمل من أجل العدالة العرقية، وقدم السيناتور “ساندرز” مشروع قرار يرفض بيع أسلحة دقيقة التوجيه بقيمة 735 مليون دولار إلى “إسرائيل”، وقال: “في الوقت الذي تدمر القنابل الأمريكية الصنع غزة، وتقتل النساء والأطفال، لا يمكننا ببساطة السماح بإتمام صفقة بيع أسلحة ضخمة أخرى من دون مناقشة في الكونجرس”، وهي محاولة رمزية لن تفلح مع إدارة “بايدن” المؤيدة لـ”إسرائيل”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) BBC World Service, 2014 Country Rating Poll Global Final Release
http://downloads.bbc.co.uk/mediacentre/country-rating-poll.pdf
(2) Gallup, Americans Still Favor Israel While Warming to Palestinians
19 March 2021
(3) Racial reckoning is shifting US public opinion on Palestine, 20 May 2021.
(4) غزة و”إسرائيل”: كيف تشعل مواقع التواصل الاجتماعي الجدل في أمريكا؟ 19 مايو 2021.
https://www.bbc.com/arabic/world-57057174
(5) The Guardian, ‘A radical change’ America’s new generation of pro-Palestinian voices’
21 May 20201.
(6) On Israel-Palestine, Americans and Europeans swap scripts, 19 May 2021.
https://www.politico.eu/article/israel-palestine-conflict-europe-united-states-swap-scripts/