رسالة بيانية بليغة وجهها النائب في البرلمان التونسي المجمّد عبد اللطيف العلوي من ائتلاف الكرامة، يطلب فيها من الرئيس التونسي أن يعيد إليه دواوينه الشعرية ورواياته القصصية التي أهداها له ذات يوم عندما كان يعقد عليه الأمل في تطوير تونس وازدهارها، أما وقد خيّب ظنه بانقلابه الأخير في 25/ 7/ 2021، حين تحول إلى ديكتاتور يجمع السلطات التنفيذيه والقضائية والتشريعية والعسكرية والشرطية في يديه، فقد صار من الضروري أن يعيد إليه كتبه، لأنها بعض نفسه، بل هي قلبه الذي كان يخفق بالحرية والأمل،
الرسالة قطعة أدبية رائعة الجمال عبرت عن واقع رديء قبيح تعيشه تونس الخضراء، أو التي كانت خضراء، ومثلت رمزا ونموذجا للأمل العربي في التحرر والانعتاق من ربقة الاستبداد والديكتاتورية والتبعية للغرب الاستعماري، يوم قامت بثورتها التاريخية أواخر عام 2010م، عقب موت الشاب محمد البوعزيزي، فهرب الديكتاتور الحاكم، وتولى أبناؤها بناء نظام يقوم على الحرية وتأصيل العدالة والمساواة، واستعادة الهوية العربية الإسلامية!
الحلم الجميل
ثورة الشعب التونسي في ظل حياد الجيش يومها كانت حلما جميلا للشعوب العربية التي اصطلت بنيران الاستبداد والقهر والتبعية لدول الغرب الاستعماري، وظلت مثلا يضرب للانتقال السلمي والتفاهم الوطني على نظام سياسي واجتماعي يحكمه الحوار والتشاور والاقتراع، ولكن الرئيس الحالي خيب ظن كثيرين بانقلابه على الحرية والديمقراطية، وأحبط آمالهم حين كشف عن وجهه الديكتاتوري الاستبدادي، ليحقق أفكارا لم يلتفت إليها أحد في بداية حكمه، وهي الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي الشمولي، الذي تصبح الكلمة فيه لشخص الرئيس وحده، ويعتمد هذا النظام على المجالس المحلية التي يصعّد من خلالها نوابا لمجلس برلماني مدجن، لا يعارض الرئيس ولا يقف في طريقه، بالإضافة إلى تصريحاته التي غيرت المفاهيم السائدة حول العلاقة مع الدولة المستعمرة (بكسر الميم) السابقة، بأنها لم تحتل تونس، وبالتالي يعفيها من جرائمها ومذابحها للتونسيين، وأنها كانت دولة انتداب، وليس احتلال، ونسي فخامته ما قاله أبو القاسم الشابي:
إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر!
ومن المفارقات أن رئيس حزب اسمه حركة أمل يلقب بالشابي أيضا، معجب بإجراءات الرئيس الاستبدادية الانقلابية، ويرى أنها في صالح الشعب الذي يعاني من الفساد، والانهيار الاقتصادي والديون، ومادرى أن فخامة الرئيس، لم ينجز شيئا، منذ وصوله للسلطة، فلم يحارب فسادا، ولم يوحد شعبه تحت غاية واحده، ولم يفعل شيئا إزاء أزمة كورونا، بل أدان إقالة وزير الصحة الذي عجز عن مواجهة الأزمة، وقد اضطر سيادته مؤخرا أن يكلف عميدا عسكريا بإدارة الأزمة، ويستعين بالمساعدات التي قدمتها إليه الدولة المحرضة على الانقلاب!
فخامة الرئيس حتى كتابة هذه السطور لم يجد رئيسا للوزراء يقبل العمل بمنهجه، وقالت الأنباء إن عددا من الوزراء ورؤساء الوزراء السابقين رفض أن يتولى المسئولية في ظل الديكتاتورية الانقلابية التي تعيشها تونس منذ الخامس والعشرين من يولية 2021م،
بوادر القمع
إن الرغبة في الانفراد بالسلطة واستئصال الحركة الإسلامية هي المحرك الرئيس في انقلاب قرطاج استجابة لقوى شريرة لا تريد خيرا بتونس ولا العرب ولا المسلمين، وقد أخذت بوادر القمع تتبلور باعتقال ناشطين ومعارضين للانقلاب، ومنع سياسيين ونواب برلمانيين من السفر، واتهامات مرسلة لجهات غامضة بتلقي أموال من جهات خارجية بغرض إحداث فوضى في البلاد.
الرئيس الانقلابي لم يقدم خطة لمستقبل البلاد، ولكنه يستجلب المؤيدين والأنصار من التيارات المعادية للإسلام، والعلمانيين (وقد عارضه كثير منهم)، ويتمسك بأهداب الأعراب المتهوّدين، ودولة الاستعمار السابقة التي أبدت دعمها له في محاربته للحركة الإسلامية، وإلغاء الديمقراطية، والبحث عن نظام ديكتاتوري يجعله فوق الدستور والقانون، مع أنه للأسف رجل قانون!
الإنس والجان
النائب العلوي المجمد من ائتلاف الكرامة أبدع في التعبير عن موقف الرئيس الانقلابي، حين وجه إليه رسالته، قائلا في تدوينة على صفحته الرسمية فيسبوك:
“من النّائب المجمّد الفقير إلى ربّه تعالى عبد اللطيف العلوي إلى فخامة الرّئيس، ملك ملوك الإنس والجان قيس سعيّد” ثم يبين الغرض من الرسالة في جملة واحدة طويلة نسبيابعد أن يزجي إليه التحية الطيبة:
“أعد إليّ كتبي الّتي أهديتك إيّاها سيّدي الرّئيس!”.
ويفصّل السبب في طلب كتبه، مشيرا إلى أنه جاد في طلبه، وليس مازحا، مؤكدا على ضرورة إعادة الكتب:
“أعرف أنّ الأمر قد يبدو لك مضحكا للغاية، وقد تراه ضربا من الوقاحة أو المزاح الثّقيل، ولكنّي جادّ تمام الجدّ ولست أمزح سيّدي الرّئيس: أعد إليّ كتبي!”.ويشرح معنى أن يهدي الشاعر أو الكاتب كتبه إلى رئيس الدولة، وهو إهداء قلبه وروحه وفكره لمن يرجو منه تقديرها واحترامها:
“عندما يهديك الشّاعر كتبه فقد أهداك قلبه، وأنا أريد أن أسترجع قلبي، فليس أوجع للمرء من أن يضع عصارة روحه وفكره وحياته بين يدي من لا يقدّرها ولا يحترمها ولا يستحقّها.
أهديتك ثلاثة دواوين شعر (خيبات طفل عظيم، عادات سيف الدّولة، طوق الهلاك) وأهديتك ثلاث روايات (الثقب الأسود، أسوار الجنّة، بيض الأفعى).
أهديتك أحلامي وأحزاني وإيماني بقدر الحرّيّة في هذه البلاد، أهديتك أملي وألمي، وشددت على يديك بيديّ يوم التقيتك، لم تكن مجرّد كلمات، كلّ حرف فيها انتزعته بلحمه ودمه من شغاف الرّوح، ودفعت ثمنه خوفا وصبرا وجوعا ووجعا، واليوم أريد أن أستردّ قصائدي، لا أريدها أن تبقى سجينة في قصرك بعد اليوم، مثل هذا الوطن!
أعرف أنّك سوف تضحك كثيرا وتقول: يا لهذا الدّعيّ المغرور؟! من يظنّ نفسه هذا الكويتب التّافه كي يطلب أمرا كهذا؟!”.
خزائن الأرض
ثم ينتقل النائب الشاعر الروائي إلى الرد على ما قد يتصوره الرئيس من طلبه إعادة كتبه بل قلبه التي أهداها إليه، معتقدا أن الأديب العلوي شاعر تافه، ولكنه يؤكد له أنه يملك ما هو أغنى من خزائن الأرض؛ وهو احترامه لنفسه، وفخر بناته بأبيهم:
“نعم، أنا شاعر تافه وصغير في أزقّة دولتكم يا سيادة الرّئيس، لا يعرفني اتّحاد الكتّاب الّذي بارك انقلابكم على الدّستور ولا يعترف بي، أنا شاعر فقير وضئيل، مثل جنديّ صغير بقي في الخندق وحيدا ليدافع عن سماء لن يطير إليها وبلاد لن تراه، ولن تخلّد اسمه في أخبار عظمائها، جنديّ بلا رُتَبٍ وبلا نياشين وبلا سجائر وبلا خبز وبلا ماء وبلا صور للحبيبة وبلا رسائل حبّ يائس تأتيه من خلف الضّباب والدّخان، ومع ذلك، ولأجل ذلك… أنا أملك ما لا يوجد في خزائن الأرض كلّها: احترامي لنفسي ونظرة الفخر في عيون بناتي”.
ويؤكد العلوي مرة أخرى إصراره على استعادة كتبه، مشيرا إلى القمع الذي يمارسه الانقلاب:
“أعد إليّ كتبي سيّدي الرّئيس! ولا تقل لي إنّك لا تعرف عنوان بيتي، فإنّ حرّاسك قد سبق لهم أن شرّفونا بالزّيارة في غيابي وروّعوا بناتي وزهراتي وقططي الصّغيرة، وفتّشوا البيت ركنا ركنا بحثا عن فكرة ممنوعة أو دمعة حبّ لهذا الوطن أو شظيّة منسيّة من حلم قديم!
كان يمكن، لو سألتموني، أن أعترف لكم بجرائمي كلّها بكلّ بساطة وهدوء ووضوح:
جرائمي التي تبحثون عنها موجودة في قصركم، في كتبي الّتي أهديتكم إيّاها… في سنوات الجوع والخوف والحزن والأحلام المخنوقة، في مواويل أمّي وحكايات جدّتي الّتي عشت أهرّبها تحت جلدي كالحشيش، في مأساة خالد الشرفي وفدوى العمدوني وعامر الصّالحي الّذي لم تترك له دولتكم سوى أن ينتحر كي لا يموت!
أعد إليّ كتبي سيّدي الرّئيس، وصوتي الّذي منحتك إيّاه، أعد إليّ صراخي وهتافي ودعواتي وصلاتي ودموعي أمام بناتي ليلة انتخابك، وأعدك … أعدك بأنّني لن أزعجك بعدها أبدا”.
رسالة العلوي تعبير بسيط رائع وجميل عن إحساس المواطن المحبط تجاه انقلاب غبي يعد بالإصلاح، ولا إصلاح، ومحاربة الفساد دون أن يقلل منه شيئا ذا بال، كما فعل الانقلابيون السابقون، وكما سيفعل اللاحقون.
الأبواق الصدئة
ثم إن الانقلاب الغبي أعطى للأبواق الصدئة وأعداء الإسلام من المتهوّدين والمتنصّرين فرصة الهجوم على الإسلام والحركة الإسلامة، وترديد الادعاء الكاذب بأن الإسلاميين سرقوا السلطة واستولوا عليها، وتناسوا أن صندوق الإقتراع أتى بهم، وأنهم لم يفشلوا في الحكم بقدر ما أفشلهم الفاشلون بالغدر والتآمر ودعم الأشرار!
كان أولى بالرئيس أن يكون مركز الدائرة التي تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتزرع ولا تقلع، ولكنه آثر أن يكون خصما وحكما وجلادا
تحية للشاعر الروائي عبد اللطيف العلوي الذي لم أتشرف بقراءة إنتاجه الأدبي، ولكني قرأت رسالة تنبئ عن أديب كبير!