توقفنا في السطور السابقة حول أو عند كلام ريحانة قريش الوليد بن المغيرة، يوم أن سمع القرآن وقال عن وفي القرآن: كلامه فيه حلاوة وبلاغة ورقي لا تعرفه العرب، وبينا كيف قريش تخوفت أن يسلم المغيرة فبإسلامه تسلم قريش قاطبة، فحركت أبو جهل ليرده عن هذا كما كانت تظن.
وفي هذا المقال، نكمل حديثنا حول الموضوع الذي عنيناه أصلاً في المقال، الذي يخص مفردات القرآن ومقاصدها البيانية والعلمية العظيمة، ومجارات المفردة ثقافة الشعوب والزمان كل حسب ما لديه من علم ومعرفة وثقافة، إلا أنها سبقتهم معلومة القرآن أو المفردة بالدلالة العلمية التي تقيم الحجة على السامع، وأهل الزمان وما لديهم من علوم ومعارف.
القرآن العظيم كما هو معلوم بديهة لكل مسلم كمعلومة، أنه آخر الكتب، كما أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم آخر الرسل والأنبياء ولا نبي بعده، وبالمقابل؛ لا شك أن القرآن الكريم آخر الكتب، ولا كتاب بعده أيضاً، فلذلك وبما أنه آخر الكتب، ولا كتاب من بعده إذاً يجب أن يكون حجة على الجن والإنس حتى تقوم الساعة، فلذلك من العدالة الحفاظ عليه لتبقى حجته سارية المفعول حتى قيام الساعة، وبالفعل تعهد الله تعالى بحفظه قائلاً: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
تكفل العظيم بعظمته وجلاله بحفظه، فكان ذلك وهو دليل العدالة، وإقامة الحجة.
القرآن العظيم فيه الكثير والكثير من الإعجاز في العلوم والبلاغة، والعلوم التي تجاري المسيرة الإنسانية وعلومها في كل زمان ومكان، ومن غير أن تمس المعلومة الصحيحة للأزمان السابقة، ومن غير أن تمس المعلومة بالخلل لذلك الزمن إن كانت صحيحة كما أسلفنا، صغرت معلومتهم هذه أم كبرت، المفردة القرآنية تخاطبهم بما علموا في حدودهم العلمية، وعدم توقف المفردة عند تلك المعلومة فقط التي علمها أهل ذاك الزمان رغم حجتها عليهم علمياً ومعرفياً وبلاغياً حينها، وفي الوقت نفسه هي تحمل ما يبهر القادمين في علومهم ومعارفهم، وأن المفردة سبقت من يدعي العلم في هذه المسألة أو تلك، نعم هي المفردة واحدة ولكن تحمل من العلم والحركة العلمية المتعددة للحاضر، ومختزلة بالعلوم وتطورها للعصور القادمة والمستقبل، وتطور علومها للمستقبل العلمي القادم والأعظم وحقيقة، العلوم التي جاءت في المستقبل لا تنفي المعلومة المحدودة السابقة التي تم علمها في الماضي، والقديمة حسب علوم ومعرفة الأولين وقدراتهم المحدودة حينها، ومعلومتهم هذه لا تخل في معلومة المستقبل، بل بينهما علاقة توافقية توقف كل عقل عند حدوده وعلمه، وهذه بذاتها معجزة أكبر مما نتخيل ونتصور، فالمعلومة الجديدة يعجب فيها في المستقبل، ويذهل أهل العلم فيها، وهي أيضاً لا تهلهل معلومة الماضي بحدوده وعلومهم المحدودة حينها.
ونحن نضرب الأمثال في ذلك لتتضح لنا الصورة وما نعنيه أكثر بدقة وأعمق، ونحاول أن نبين شيئاً من هذه العلوم القرآنية التي تجاري كل زمن بعلمه، أو بالأحرى تحدث كل زمن حسب قدراته العلمية وتطوراته، نعم وهذه الأمثلة التي تبين ذلك حسب زمانها وما فيه من علم وحق محدد في حينها، وفي الوقت نفسه تحمل معلومات مختزلة للمستقبل، وهي أيضاً حق، بل تبهر العلوم القادمة مستقبلاً بسبقها، ومن هذه الأمثال قوله تعالى: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) (القيامة: 4)، يفهمها أصحاب الأزمان السابقة التساوي الشكلي بين الأصابع، أي أنه قادر على أن يجعلها بحجم واحد وطول واحد، وهو فهم صحيح ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وصحيح حسب العلم لذلك الزمان، وأيضاً يحتمل ضمناً علوم المستقبل كعلم البصمة التي لا يمكن أن تكون هناك بصمتان متشابهتان، وأيضاً تواكب علوم تنوع حجم الأصابع وفائدة هذا التنوع كل إصبع حسب حجمه وطوله، وأنه لولا هذه الفروقات في الأصابع سيكون من المستحيل باستطاعة الإنسان أن يجمع في يده القدرات المتعددة (الأكل، والكتابة، والإمساك، والحمل، وربط الخيط، والدقيق من العمل.. إلخ)، فسبحان الله أحسن الخالقين! ولا شك تحمل معلومات مستقبلية أخرى تتوافق مع اللفظة دون أن تخدش معرفة ومعلومات من سبقها، وتكون إضافة إلى ذلك، وهي مفردة واحدة، وهذا بحد ذاته إعجاز علمي غير عادي، وكيف لا وهو كتاب الله سبحانه تعالى.
نكمل حديثنا في السطور القادمة مع بيان أمر آخر، وهو المحسوس الملموس الذي يدلل ويؤكد الغيبي نقلاً وعقلاً.