بدعوة كريمة من أحد الأصدقاء البارحة جمعنا في سهرة رمضانية مع داعية سنغالي جاء إلى الكويت يبحث عن دعم مالي لجمعيته الخيرية التي تعني بشؤون التعليم.
بعد أن استفاض بنا الحديث عن جمعيته التي تعنى بالعمل التربوي الديني وتركز على التعليم، أخذ يسرد لنا تاريخ السنغال التي دخلها الفرنسيون منذ ما يقارب 250 عاماً، وكيف استطاع الفرنسيون قيادة وتوحيد البلاد التي كانت تحكم من قبل القبائل وعلى كل منطقة ملك أو قائد قبيلة قبل الاستعمار الفرنسي، حتى ظهرت بعد قرنين من الاستعمار في منتصف القرن الماضي حركات مقاومة دينية للاستعمار الفرنسي، بعد أن زارهم ديغول منحهم استقلالهم وعين عليهم أول رئيس جمهورية من السنغال، حيث كان الرئيس المعين ممثلاً للسنغال في البرلمان الفرنسي، وبعد سنوات من العمل الديمقراطي هُزم الاشتراكيون وصعد حزب علماني ليبرالي، وما زال يحكم حتى الآن بطريقة ديمقراطية.
تقع السنغال في غرب أفريقيا، وتطل على المحيط الأطلسي، وعدد سكانها تقريبا 15 مليوناً غالبيتهم من المسلمين السُّنة، مع وجود طوائف إسلامية أخرى، وهناك أقلية عرق أبيض جاءت من لبنان إلى السنغال في الهجرات القديمة.
حدثنا الداعية محمد جوف الذي ينتمي إلى المدرسة الإصلاحية الصوفية، أن هناك فاصلاً كبيراً وحاداً في التشريعات السنغالية ما بين العمل الخيري والعمل السياسي، إذ تنص القوانين لديهم أنه يمنع على كل من يعمل بالعمل الخيري أو الاجتماعي أن يمارس العمل السياسي، وأن أي ترخيص يمنح بالعمل الخيري أو الاجتماعي بكل أنشطته يكون مشروطاً بعدم ممارسة العمل السياسي أو استخدام الجمعيات الخيرية لأي عمل سياسي أو الانحياز لأي من فرقاء العمل السياسي، وأن أي جمعية أو نادٍ أو هيئة تخالف هذا الشرط يتم سحب الترخيص منها بسبب ممارسة العمل السياسي أو دعم أي من فرقاء العمل السياسي أو قبول استخدامها منبراً لأي من فرقاء العمل السياسي، وأي شخص ينوي ممارسة العمل السياسي عليه أن يستقيل من أي نادٍ أو هيئة خيرية قبل وقت الانتخابات بـ6 أشهر، ويستطيع أي شخص أن ينتخب بصفته مواطناً لا بصفته عضواً في أي عمل خيري.
الداعية يتحدث بحماس عن أهمية هذا القانون في حماية العمل الخيري من تجاذبات العمل السياسي، وحماية الديمقراطية من تأثير العمل الخيري على العملية التصويتية، ويردف بالقول: إن العمل الدعوي والخيري يجب أن يبقى بعيداً عن العمل السياسي.
هذا الفصل الواضح ما بين العمل الخيري والعمل السياسي يكاد يكون أهم شرط من شروط نجاح العمل الديمقراطي ليكون البرنامج هو الذي يحكم بعيداً عن استخدام العمل الخيري ليكون مالاً سياسياً أسود متدثراً بثوب العمل الخيري ويقطف ثمرته السياسيون.
في تونس، كان لهم تجربة مرة في دور المال الأسود الذي كان يقدم بصيغة العمل الخيري ليؤثر في العمل السياسي، إذ استطاع المال الأسود المغلف بالعمل الخيري أن يصل بأحد المرشحين إلى الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية محمولاً على ظهر جمعية خيرية تم تأسيسها لتكون وسيلة من وسائل المال الأسود في العمل السياسي؛ مما اضطر القوى الثورية الذهاب مرغمة في الجولة الثانية إلى انتخاب الرئيس الحالي بغالبية كبيرة دفعته إلى اختطاف وتعطيل الحياة السياسية، إذ كان الخيار المر للقوى الثورية بين شخص الرئيس الحالي القادم من العدم السياسي وشخص يستخدم المال الأسود في العمل السياسي ومتورط بأعمال فساد.
في الأردن، قالها نائب في البرلمان الحالي وفي لقاء مع إذاعة صباحية: إنه لا يستخدم المال الأسود في الانتخابات، لكنه ينتهج نهج أحد الأحزاب الأردنية الإسلامية، على حد قوله، وأنه يقلدهم في ذلك ويستخدم ذات الإستراتيجية العمل الخيري في خدمة العمل السياسي.
في بعض دول العالم العربي التي يوجد بها حياة سياسية، لدينا فراغ تشريعي كبير في تنظيم العمل الخيري وعدم تدخله في العمل السياسي، وإن كانت دولة الكويت استثناء من ذلك الفراغ التشريعي، إذ تمارس الأحزاب في بعض الدول العربية العمل الخيري، والجمعيات الخيرية تستخدم حديقة خلفية لممارسة العمل السياسي، والساسة يستخدمون العمل الخيري لتسييل تلك الأعمال إلى قوة تصويتية تصل بهم إلى المناصب السياسية السيادية.
ما زلنا في العالم العربي نشكو فقراً شديداً في تنظيم وتشريع العمل السياسي، إذ يدخل العمل الخيري على العمل السياسي، ويدخل العمل السياسي على كل الميادين، ويستغلها في بناء قوة تصويتية في مواجهة خصومه السياسيين، وهذا ما يجعل البيئة السياسية فقيرة في العمل البرامجي؛ مما يجعل مخرجات الديمقراطية عاجزة كل العجز عن تسييل نتائج الصناديق إلى تنمية حقيقية تنعم بها الشعوب كما يحصل في الدول الغربية.