شاع في بعض الأوساط أن الجهر بالتكبير في المساجد عقب الصلوات أيام التشريق من البدعة المنكرة، وأنه لم يرد ذلك عن الصحابة ولا السلف الصالح، مستدلين ببعض آراء الفقهاء المعاصرين.
ومما لا خلاف فيه أن التكبير مشروع في العيدين وفي أيام التشريق، وإنما دارت مسائل جزئية حوله كان خلاف الفقهاء حولها.
أما ما يتعلق بالتكبير في أيام التشريق، وهل التكبير جهراً أم سراً، فهو على النحو التالي:
أولاً ـ تعريف أيام التشريق:
هي الأيام التي تلي يوم النحر الذي هو يوم عيد الأضحى، فهي يوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، وسميت بهذا الاسم (أيام التشريق) لأنهم كانوا يقددون اللحم بوضعه في الشرقة التي هي الشمس.
ثانياً ـ مشروعية التكبير أيام التشريق:
يسن التكبير في عيد الأضحى بإجماع فقهاء الأمة، نقل ذلك غير واحد، منهم ابن قدامة والنووي وابن رجب وابن تيمية.
ومن أدلته:
قوله تعالى: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)” البقرة: 203)، وجاء في تفسير (أيام معدودات) أنها يوم العيد وأيام التشريق، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وأبي موسى الأشعري وعدد من التابعين والفقهاء. (راجع تفسير ابن كثير:1/561)
ومن الآثار فيها ما ورد عن عمر – رضي الله عنه-:” أنه كان يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيراً”، رواه البخاري.
وفي البخاري: ” وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعاً”.
ثالثاً ـ ألفاظ التكبير في السنة:
شاع بين كثير من العلماء قديماً وحديثاً أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم لفظ معين في التكبير.
وقد نقل بعض الفقهاء روايات من السنة في كتبهم تتناول ألفاظ التكبير، من ذلك:
ما روي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – صعد الصفا وقال: (الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده). ذكر في كتاب التجريد للقدوري (2/ 992)، وهو حديث حسن، قال الألباني في: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (8/ 402): حسن ـ ((ابن ماجه)) (2628)
وفي المبسوط للسرخسي (2/ 43): عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «أفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبلي يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد»
ورد الحديث في إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المسانيد العشرة (3/ 213)، وأخرجه العقيلي في “الضعفاء” “3/462″، ترجمة “1518”، فرج بن فضالة الحمصي. وقيل: إنه حسن. راجع: كشف الخفاء (1/ 173)
وأصل ألفاظ التكبير ما روي «أن جبريل – عليه السلام – لما جاء بالقربان خاف العجلة على إبراهيم – عليه السلام – فقال – عليه السلام – الله أكبر الله أكبر فلما رآه إبراهيم – عليه السلام – قال لا إله إلا الله والله أكبر فلما علم إسماعيل – عليه السلام – بالفداء قال الله أكبر ولله الحمد» درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 145)
وبهذا يثبت أن هناك روايات يفهم منها ورود بعض ألفاظ التكبير في السنة النبوية، على أن المفهوم من أقوال العلماء أن صيغ التكبير واسعة؛ كما أن صيغ التشهد مثلاً ليست واحدة، بل نص العلماء على أنه إن قال المصلي:” اللهم صل على محمد وآله ” كفته. مع أنها لم ترد وحدها.
رابعاً ـ الجهر بالتكبير أيام التشريق:
ذهب جمهور العلماء إلى استحباب الجهر بالتكبير، وهو رأي المالكية والشافعية والحنابلة ورواية عن أبي حنيفة، وهو رأي الصاحبين؛ أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
بل ذهب ابن عابدين أن رواية الجهر عن أبي حنيفة في الأضحى أصح من قوله بالإسرار بالجهر.
جاء في (رد المحتار) (2/ 170)
” الخلاف بين الإمام وصاحبيه في الجهر والإخفاء لا في أصل التكبير.. بل حكى القهستاني عن الإمام روايتين إحداهما أنه يسر، والثانية أنه يجهر كقولهما قال: وهي الصحيح على ما قال الرازي ومثله في النهر”.
وهذه طائفة من أقوال المذاهب في مشروعية التكبير جهرا، وهي على النحو التالي:
في المذهب الحنفي:
جاء في كتاب عيون المسائل للسمرقندي الحنفي (ص: 19)
روى عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة قَالَ: إذا كبرّ الإمام فينبغي للقوم أن يكبّروا معه لا يسبقهم ولا يسبقونه، وهذا قول زفر، وقَالَ أَبُوْ يُوْسُفَ: لا يكبرون حتى يفرغ الإمام من التكبير، وهكذا روى عن محمد.ا.هـ
ويلاحظ هنا في هذه الرواية قول أبي حنفية: ” إذا كبرّ الإمام فينبغي للقوم أن يكبّروا معه لا يسبقهم ولا يسبقونه”، ما يشعر أن الأصل هو التكبير جماعة.
وفي كتاب: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (2/ 176)
” وقت التكبير فإنه يكبر عقب الصلاة جهرا، ويسن الجهر بالتكبير إظهارا للشعائر”.
وهنا علل أن السنة في التكبير الجهر؛ ( إظهارا للشعائر”.
وفي الدر المختار (ص: 113)
(ويكبر جهراً) اتفاقا (في الطريق) قيل وفي المصلى، وعليه عمل الناس اليوم لا في البيت”.
وبنى القول بالجهر وترجيحه على السر أنه ” عليه عمل الناس اليوم”.
وفي نفس المعنى ن جاء في درر الحكام شرح غرر الأحكام (1/ 146)
” وفي مبسوط أبي الليث لو كبر على إثر صلاة العيد لا بأس به؛ لأن المسلمين توارثوا هكذا فوجب أن يتبع توارث المسلمين”.
ورجح الجهر بالتكبير أن المسلمين توارثوا العمل به.
أما نفي التكبير جهرا، فإنه يستثنى منه الجهر بالتكبير في أيام التشريق، فإن كان الأصل عدم التكبير عامة، فإن الاستثناء داخل في أيام التشريق، كما في
البحر الرائق (2/ 172): “التكبير جهرا في غير أيام التشريق لا يسن إلا بإزاء العدو أو اللصوص وقاس عليه بعضهم الحريق والمخاوف كلها”
في المذهب المالكي:
وتأكد معنى الجهر بالتكبير في المذهب المالكي، كما جاء في الحجة على أهل المدينة (1/ 311): ” وقال أهل المدينة التكبير في أيام التشريق خلف الصلوات وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه خلف صلاة الظهر من يوم النحر وآخر ذلك تكبير الإمام والناس معه خلف صلاة الصبح من آخر أيام التشريق ثم يقطع التكبير”.
ويلاحظ قوله:” تكبير الإمام والناس معه “.
وفي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (2/ 191):” وقال المازري في شرح التلقين في باب صلاة العيدين: وأما جهر المأموم بالتكبير فقد قال ابن حبيب: يجهر الناس بالتكبير جهرا يسمع من يليه ولا بأس أن يزيد في جهره ليسمع من يقرب ممن لا يسمع الإمام ويجهر بالتكبير” انتهى.
ويلاحظ هنا مشروعية الجهر بالتكبير، وإن كان أقل درجة، فقد جعله المازري أن يسمع من بجواره.
في المذهب الشافعي:
جاء في كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار (ص: 151):” ويستحب رفع الصوت بالتكبير للرجال دون النساء”.
(وقال) الشافعي: يكبر عقب كل صلاة مفروضة أو نافلة منفرداً أو في جماعة واختاره البخاري. (راجع: الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق (4/ 364)
خامساً ـ الرد على من نفي التكبير جماعة:
نقلت بعض النصوص عن العلماء ما يفهم منها منع التكبير جماعة، من ذلك:
قال الحطاب المالكي:” وأما ما يفعله بعض الناس اليوم أنه إذا سلم الإمام من صلاته؛ كبر المؤذنون على صوت واحد على ما يعلم من زعقاتهم، ويطولون فيه، والناس يستمعون إليهم، ولا يكبرون في الغالب، وإن كبر أحد منهم فهو يمشي على أصواتهم، وذلك كله من البدع، وفيه إخرام حرمة المسجد والتشويش على المصلين والتالبين والذاكرين” مواهب الجليل: 2/582.
يلاحظ هنا أن الكلام على تفرد بعض المؤذنين بالتكبير دون الناس، كما قال:” الناس يستمعون إليهم ولا يكبرون في الغالب”، وهذه صورة غير الصورة التي يكبر الناس جميعاً فيها، الإمام والناس معه، فلا يصح الاستدلال بها.
وقال العدوي: ” ويكبر كل واحد وحده في الطريق وفي المصلى، ولا يكبرون جماعة؛ لأنه بدعة” حاشية العدوي، 1/497
وقال النفراوي:” ولا يكبرون جماعة؛ لأنه بدعة”. الفواكه الدواني: 2/649.
أما قول العدوي والنفراوي، فهو ترجيح لأحد الرأيين في المذهب المالكي، والجهر بالتكبير محل خلاف في الأصل، ولما كان الراجح هو الجهر بالتكبير؛ فكانت مثل هذه النقول لا تتناول الترجيح في أصله؛ لأنهم يخالفون الأصل، فسقط أن يقال: يشرع التكبير جهرا، ولا يشرع جماعة.
واستدل البعض بقول الشاطبي في الاعتصام (1/249): ” إذا ندب الشرع إلى ذكر الله فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وصوت واحد، لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة يفهم على أنه تشريع، وخصوصا مع من يتقدى به في مجامع الناس كالمساجد، فإذا أظهر هذا الإظهار، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر كالأذان وصلاة العيدين والكسوف، فهم منها – بلا شك- أنها سنة إن لم تفهم منها الفرضية، فلم يتناولها الدليل المستدل به، فصارت من هذه الجهة بدعا محدثة”.
ونص الشاطبي لا يتناول التكبير جماعة في العيدين وأيام التشريق، وإنما يتناول الحالة العامة، وقد سبق أن النصوص استثنت العيدين وأيام التشريق.
بل إن الشاطبي – رحمه الله- نص على أن من يجهر بالذكر قاس على التكبير في العيدين، فكان نص الشاطبي مؤيدا للجهر بالتكبير في العيدين.
وعلى كل، فهناك خلاف بين الفقهاء في التكبير في جزئياته، خلاصتها ما نقله ابن حجر في فتح الباري (2/315):
” وفي التكبير اختلاف بين العلماء في مواضع: فمنهم من قصر التكبير على أعقاب الصلوات، ومنهم من خص ذلك بالمكتوبات دون النوافل، ومنهم من خصه بالرجال دون النساء، وبالجماعة دون المنفرد، وبالمؤاداة دون المقضية، وبالمقيم دون المسافر، وبساكن المصر دون القرية.
وظاهر اختيار البخاري شمول ذلك للجميع، والآثار التي ذكرها تساعده”.
فبان أن في الأمر سعة، وإن كان الراجح هو مشروعية الجهر بالتكبير جماعة عقب الصلوات، وأنه ليس بدعة، وإنما الخلاف في أصل المسألة: هل يشرع الجهر بالتكبير أم لا؟ أما من قال بالجهر، فلا يقال: إن الجهر جماعة بدعة؛ لأنه يخالف أصل القول.
ولا يعقل أن يكون التكبير جهراً سنة، ويجهر الناس مع الإمام، ثم يقال: لا يكون جماعة.
بل إن الآثار الواردة عن الصحابة تشهد للتكبير جهراً جماعة، كما ورد من أثر عمر بن ا لخطاب وابنه عبد الله – رضي الله عنهما-.
وقد قرر الفقهاء في قواعدهم:” لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المتفق عليه”. فالأمر فيه سعة.